لا أذكر أن الدكتور عبدالرحمن طه بخش، الذي فاجأني نبأ رحيله (صباح السبت الماضي).. بينما كنت أحاول الاتصال به على (جواله) في ذات الصباح - لأمر يخص كتابه الجديد.. (تجربتي التي عشتها) -،
أنه كان يشكو من أي من تلك الأمراض المعضلة أو العصية أو الخطيرة إجمالاً.. التي عادة ما تنتهي بصاحبها إلى تلك النهاية الإنسانية المفجعة والحزينة: الموت.. فالرحيل.. فالغياب..!
فمنذ أن اقترب مني.. وهو «نجم» في سماء تخصصه (الزمالة البريطانية من أدنبرة في جراحة المسالك)، و»نجم» في قدرته على إنشاء أفضل المستشفيات الخاصة طبياً وأرقاها تعاملاً إنسانياً، و»نجم» في مجتمعه الإنساني.. من خلال عضوياته في جمعيات المعوقين، ومرضى (السكري) و(جراحة القلب) والعيون الخيرية.. ليسألني وقد بدأ العقد السابع من حياته: إن كان في «سيرة» حياته ما يستحق كتابتها ونشرها بين الناس..؟
قلت له.. ضاحكاً: لابد وأن أستمع إلى «تفاصيل» تلك السيرة.. ف «الإجماليات» في كتابة السير الذاتية لا تكفي أولا تُرجح، ولكنها «التفاصيل».. ب «طموحها» وحرقتها، ب «إنسانيتها» انتصاراً أو انكساراً، وب «غاياتها».. أثرة أو إيثاراً..؟
ضحك.. وهو يقول: إذاً.. دعني أحكي لك..؟
وبدأ يحكيني.. على مدى ثلاث أو أربع جلسات - في منزله - حكايته مع «الطب» أولاً، والتي بدأت في تلك الليلة من ليالي الشتاء في مكة.. عندما أخذت والدته الصابرة الكتومة - التي يحبها كما لم يحب أحداً مثلها - وهي تصيح وتئن من آلامها وأوجاعها التي استقرت في معدتها أو أمعائها أو هما معاً، فما كان منه إلا أن يتشاور مع شقيقه الأكبر.. فيما يجب عليهما أن يفعلاه في غياب والدهما في إحدى رحلاته إلى الخليج لجلب ما يحتاجه من أحجار العقيق والفيروز واللؤلؤ ل «متجره»؟ ثم حسما قرارهما بالذهاب.. في ظلام تلك الليلة وبصحبة (فانوس) يبددان بضوئه الشاحب ظلام الأزقة و»الطلعات» الجبلية التي عليهما أن يجتازاها وصولاً لذلك «الطبيب»، اللذان توخيا استجابته لهما في ذلك الليل، فلم يخب الطبيب رجاءهما.. في استجابته، ليصحباه لرؤية والدتهما.. فكان أن اختفى أشقاؤه وشقيقاته لحظة الكشف عليها خوفاً وهلعاً من (الطبيب) وأدواته ومعداته إلا (هو)، الذي ظل يساعد الطبيب لحظة بلحظة.. حتى أتم عمله، وأحقن والدتهما بما لا يعرفانه من الأدوية، وكتب وصفته.. ليقول ل (عبدالرحمن) وهو يضع الوصفة بين يديه: أظنك.. ستصبح «طبيباً»..!؟
وبصرف النظر عما قاله هذا الطبيب.. فقد كان (عبدالرحمن) طالب المدرسة الثانوية آنذاك مبهوراً بما رأى وسمع، وهو.. يتأمل كل ما حدث أمامه، ويعجب من هذا (السحر) الذي فعله هذا (الطبيب).. فأسكت به أوجاع والدته وآلامها!؟ ليقرر.. أنه لابد عند تخرجه - من تحضير البعثات - أن يتعلم هذا (السحر). هذا (الطب).. الذي أنقذ والدته وأعاد البسمة إلى شفاه أشقائه وشقيقاته وعماته، فذهب إلى جامعة عين شمس، وهناك تعلم (السحر).. تعلم (الطب)، واختار تخصص (المسالك البولية) لندرته في مجتمعنا آنذاك.. وابتعاد الخريجين عنه: ربما حياءً.. وربما نأياً ب «سمعتهم» عن علاج أمراض (السيلان) و(الزهري) وما شابههما من الأمراض المشبوهة أخلاقياً في تلك الأيام.
ولم تنته حكايته مع (الطب) عند تخرجه من (عين شمس) وتخصصه.. بل واصل إلى «إنجلترا» طلباً لأعلى المستويات الطبية في تخصصه، وقد أعانه على ذلك رجل المعارف الذي لا يُنسى (الشيخ حسن عبدالله آل الشيخ) عندما اعتمد انضمامه إلى البعثات السعودية - رغم أنه لم يعمل في مستشفيات الحكومة.. العامين المقررين عليه بعد تخرجه وقبل ابتعاثه للدراسات العليا - ، وهناك.. بين «لندن» و»أدنبرا»، والقسم الأول من الزمالة (النظري) الذي اجتازه بكل سهولة وجدارة مع أول امتحان فيه.. بدأت معاناته مع القسم الثاني (العملي).. ومكابداته مع غلظة أساتذة الزمالة البريطانيين وعجرفتهم وغرورهم، التي امتدت به لست محاولات.. حتى انتزع (النجاح) في محاولته السابعة وقد قرر أن تكون هي الأخيرة إن سلباً أو إيجاباً..
لأسأله: وماذا كنت تريد من وراء كل هذا الصبر، وهذه المعاناة العلمية الطويلة..؟
- كنت أريد ألا أكون موظفاً.. وأن أكون أخصائياً محترماً لأخدم وطني وأبناء وطني..!!
قلت له سعيداً بما سمعت منه: إن لديك (يا عزيزي) ما يكفي إنسانياً وطموحاً لكتابة سيرة ذاتية يقرأها كل الناس.. ويفيد منها الشباب عامة وشباب خريجي كليات الطب خاصة، وبدأ تسجيل قصة حياته: من «المسعى» إلى «أدنبرا».. ماراً بكل محطاتها المكانية والزمانية، وبضعفها قبل قوتها.. وبقلتها قبل وفرتها.. وبأحزانها قبل أفراحها ومسراتها، وهي التي ظهرت فيما بعد في كتابه الجميل (أيام العمر)، الذي أعجبه.. بقدر ما أعجبني.. بقدر ما أعجب عشرات القراء، الذين هاتفه بعضهم.. وكتب له بعضهم مهنئين مثنين على الكتاب وما جاء فيه من قصص وطرائف وأسرار ودموع وابتسامات لم يكن ليعرفها حتى أقرب المقربين منه.
ومرت الأيام، وطوى الدكتور عبدالرحمن عامه الخامس والسبعين أو ما حوله.. ليعاوده حنين العودة إلى البيت العتيق، والإصغاء مجدداً لنداءات مآذنه، وتهليل الطائفين حوله، والساعين بين صفاه ومروته.. ليكون منهم وبينهم ذات يوم متفرغاً لعبادة الواحد الأحد، تاركاً أعماله اليومية لابنه وكريماته الأربع وجميعهم متخصصون في إدارة المستشفيات أو إدارة الأعمال بصفة عامة، وهو ما لم استحسنه.. أخذاً بقولة الفاروق عمر لشقيق ذلك «العابد» على رأس الجبل: (إنك لأعبد منه).. أو كما قال.
لتحدثه إحدى كريماته - في جلسة صفاء ومحبة بينها وبينه - وماتزال في ذاكرتها.. نشوة نجاح كتابه الأول (أيام العمر)، عن كتاب آخر.. يروي فيه قصة أو قصص إنشائه لهذا العدد من المستشفيات (سبعة مستشفيات) - التي تحمل اسمه في جدة، وينبع وتبوك فمكة المكرمة، بعد أن أصبح اسمه (في عالم المستشفيات الخاصة) وكأنه إحدى «ماركات» النجاح العالمية المعروفة.. أو (البراندنيم) كما تقول لغة رجال الأعمال وأساتذة التجارة والصناعة..؟
لقد دعاني حينها ل «فنجان شاي» في منزله.. ليفاتحني في (فكرة) هذا الكتاب الجديد، وليستوضح رأيي فيها..؟
فكان أن أخبرته.. بأن كتاباً كهذا سيكون مقروءاً ومفيداً لو أنه امتد إلى سرد الجانب التاريخي لقصة إنشاء (المستشفيات الخاصة) في جدة إجمالاً باعتبارها رائدة إنشاء المستشفيات الخاصة بين مدن المملكة.. إلى جانب سرده لتجربته الشخصية في إنشاء مستشفياته، وقد أعجبته هذه الإضافة.. بل وطلب مساعدتي له في سبيل تحقيقها، وقد كان.. ليخرج كتابه الثاني والجديد (تجربتي التي عشتها) مذيلاً بمثل عربي جميل لا أدري من أين جاء به (من أراد حصاناً بلا كبوة.. سار على قدميه)، وكأنه أراد أن يلخص من خلاله.. مفردات قصته الشخصية في بناء مستشفياته، ومعاناته الطويلة في سبيل إقامتها.
في مسار إصدار هذا (الكتاب).. ومع ترددي على منزله بين الحين والآخر، فوجئت ذات يوم بوجود (جهاز متنقل) إلى جواره، وعندما سألته عنه..؟ أخبرني.. بأنه جهاز لإمداده ب «الأوكسجين» نظراً لما يعانيه من تليف رئوي. فلم أصدق.. واعتبرت أن وجود هذا الجهاز ليس بأكثر من «مبالغة» في العناية بالدكتور عبدالرحمن من قبل أطبائه وزملائه العاملين معه في مستشفاه..!!
وظللت على قناعتي هذه.. إلى أن هاتفته ذات صباح ليفاجئني سكرتيره ومساعده الخاص (بابكر) بأن (الدكتور.. منوم في المستشفى)..!! فلم تهتز قناعتي بأن زملاءه الأطباء وهم أصدقاؤه المحبون له والحريصون عليه.. أرادوا أن يتحيطوا في العناية به، فاستبقوه ليوم أو يومين ب «المستشفى» لمزيد من الفحوصات.. وأنه سيتركها حتماً خلال أيام، وقد كان.. لأزوره في منزله (ولم أكن لأعلم أن تلك الزيارة هي الاخيرة، وأنني لن أراه في مجلسه هذا.. بعد الآن).. فقد استقبلني يومها بذات ابتسامته الودودة المرحبة.. وبذات نظرته الوادعة الطيبة التي لم أر كثيراً مثيلها فيمن عرفت على كثرتهم، لنقلب معاً النسخ الأولى من كتابه الجديد (تجربتي التي عشتها)، وهو يذكرني بسقوط اسم زوجته من الكتاب عند حديثه عنها وعن دورها.. في حياته وأعماله ونجاحاته.
ودعته.. على أمل أن أتصل به ثانية لمعرفة ما إذا كان يريد أن يضع كتابه الجديد هذا .. ل «التوزيع» في المكتبات.. أم أنه سيقوم بإهدائه لأصدقائه وأحبابه ومعارفه وما أكثرهم..؟
في الثانية عشر ظهراً.. من يوم السبت - ما قبل - الماضي.. كنت أدير رقم جواله ل «أصبَّح» عليه، ولأسأله الرأي الأخير في «إهداء» أو «توزيع» كتابه.. ولكن كانت نداءات الجوال المتلاحقة لا تجد على الطرف الآخر من يجيب عليها، فكررت المحاولة.. إلا أنها لم تكن بأفضل من سابقتها.. فقد ظل نداء الهاتف ورنينه يتلاحق كالمرة الأولى دون جواب..!! فقدرت أنه ربما ذهب إلى المستشفى ليوم أو يومين.. كالمرة السابقة، ولكن «الحقيقة» فاجأتني. لطمتني بروعها.. بعد ساعة ونصف عندما هاتفتني سكرتيرة مكتبه، لتخبرني بأن (الدكتور) قد انتقل في الثالثة من صباح ذلك اليوم إلى رحمة الله.
تحشرج صوتي.. وصحتُ قائلاً: يا الله.! أمات.. بهذه السرعة وبهذه البساطة..؟
قالت: نعم.. والبركة في ابنه الدكتور طه وكريماته..
وضعت سماعة الهاتف.. لتملأ «صورته» الوادعة التي لا تحمل حقداً.. و»ابتسامته» الحانية التي لا تخفي غلاً.. عقلي وقلبي، فأدرك معهما مجدداً ذلك المعنى الخفي لتلك السهولة والبساطة التي مات بهما: ف «الطيبون» يموتون.. هكذا!! واقفين مبتسمين.. وكأنهم يلوحون خلف زجاج نافذة قطار.. يسير بهم إلى «نهاية المشوار».