|
د. محمد بن يسلم شبراق :
أكتب هذا التعقيب رداً على ما ورد في برنامج (نوافذ) في قناة الإخبارية مساء يوم الثلاثاء، والتي تمَّ فيها مقابلة أحد مسؤولي الهيئة السعودية للحياة الفطرية للحديث حول النسر الأسمر، والتي نشرت جريدتكم خبر الإمساك به، بالرغم من تأثري الشديد لما يحدث في حبيبتي جدة.. فالعين تدمع.. والغصة مرَّة تتعلق بتلابيب حلقي، وقلبي يحترق ألماً على المدينة التي نشأت فيها.. وقضيت أجمل أيام حياتي بين أزقتها وشوارعها، أكتب لكم.. وقلق مفزع يسيطر عليَّ لوضع أهلي وأحبتي من سكان العروس المحاصرين في البيوت بدون كهرباء ولا ماء.. رغم ذلك تغلَّب شعور المواطنة والمسؤولية العلمية فوق سائر همومي الخاصة، تلك الأمانة التي نحملها، أمانة العلم، التي تحتم عليَّ الحديث عن هذا الموضوع (النسر الأسمر).. وتوضيح بعض الأمور المتعلقة به.
فقد آلمني كباحث ومواطن الثقافة الضحلة لدى المتصلين بالبرنامج بطبيعة بلدهم الغنية بالتنوع الأحيائي، كذلك عدم معرفتهم بوجود هذه الطيور في بلادهم بالرغم من وجود مجموعه معششة في هذا الوقت 15 كيلاً للغرب من المنطقة التي مُسك فيها الطائر وذلك في جبل خطام، وما يزيد الألم والأسى خلو بعضهم من الرحمة - والتي هي من صفات المؤمنين - بإشارتهم إلى ضرورة القضاء على النسر! لأنه يحمل أجهزة متابعة للهجرة، فقط بسب حلقة معدنية إسرائيلية! وبدأت حينها أقلق على ما نقوم به في هذا البلد من دراسات علمية على الطيور ومتابعة هجرتها، وما مصير النسور والصقور والحبارى التي يتم متابعتها من قبل باحثين بالمملكة والعالم، وما مصير أسماك حوت القرش بالبحر الأحمر، والتي تقوم جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية بدراستها ومتابعة حركتها.. وما شعور ذلك المهندس الجاد من مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية الذي يعمل على تطوير برنامج لمتابعة التلوث باستخدام طريقة الاستشعار عن بُعد، مستفيداً من تقنية المتابعة عن طريق الأقمار الصناعية، ودور الطيور البحرية كمؤشر لمعرفة التغيرات البيئية بالمنطقة.. وكيف تُحسب خسارة الهيئة السعودية للحياة الفطرية لأحد سلاحفها التي تحمل تلك الأجهزة.. أو تلك الحبارى التي عليها جهاز متابعة بالأقمار الصناعية، ويزيد قلقي عندما تأتيني رسائل عن بحوث ودراسات عن طيور من أنحاء العالم تشير إلى أن هناك أنواعاً عديدة عليها أجهزة متابعة تهاجر من مناطق تكاثرها شمالاً لتقضي الشتاء ضيوفاً على هذا البلد الكريم، فينتابني خوف من أن يترصد لها صياد أو يغدر بها قانص جوائز، بحجة أنها تحمل أجهزة تجسس!
وعليه فإن من موقعي كباحث في علوم الطيور وعضو بالمجلس العالمي لحماية الطيور.. أكتب لكم لتوضيح عدد من النقاط ذكرها ضيف برنامج (نوافذ) د. هاني تطواني.. ولكن بشكل مبسط، بسبب الجو الذي خلقه مقدم البرنامج والمتصلون، مما جعل الحوار يدور وكأن الجهاز الذي على الطائر هو جهاز إسرائيلي للتجسس، بالرغم من إشارة ضيف البرنامج حول ما ذكره صاحب السمو الأمين العام للهيئة السعودية للحياة الفطرية بأنه جهاز بحثي.. ويؤكد ذلك نشر العديد من الصحف منها هذه الجريدة تصريح سموه الكريم.. لذا فإن من أهداف هذا التعليق إطلاع الجميع على حقائق حول أجهزة المتابعة المستخدمة بمتابعة هجرتها، وبالأخص الجهاز المثبت على النسر الأسمر، بحكم أنني ساعدت في التعرف عليه، وهذا شرح موجز عن هجرة الجوارح وهجرة النسور بشكل خاص:
بالنسبة للجهاز على النسر الأسمر، الذي أثار ضجة كبيرة، فقد تم تحديد (هويته)، فهو جهاز يعمل للتعرف على حركة الطيور، يُسمى بمسجل مواقع (GPS Data Logger) وهو لدى الجهات المختصة الآن، وهذه الأجهزة تحتوي على جهاز تحديد مواقع عن طريق الأقمار الصناعية (Global Positioning System» GPS») ومخزن للقراءات (Data Logger)، يقوم بتخزين القراءات للمواقع، تتم برمجته مسبقاً قبل تثبيته على الطائر في عدد المرات التي يتم فيها تحديد عمله، لتوفير الطاقة والتي عادة إما بطارية جافة.. أو عن طريق خلايا شمسية، وقد كان الجهاز الذي على الطائر متصلاً ببطاريتين، ويتم الحصول على المعلومات من هذه النوعية من الأجهزة بطريقتين:
الأولى: تتطلب مسك الطائر مرة أخرى عند عودته من هجرته وأخذ الجهاز وتفريغ المعلومات منه.
والثانية: عن طريق جهاز إرسال يُركّب ضمن تركيبة الجهاز يعمل تحت موجة معينة يتم من خلالها تفريغ القراءات للحاسوب عن بُعد بدون مسك الطائر، وهذا ما كان عليه ذلك الجهاز المثبت على الطائر في الخبر المذكور.. ويمكن معرفة ذلك في طول الهوائي المتصل بالجهاز.. وقد تطورت هذه النوعية من الأجهزة ليصل وزن بعضها إلى جرام واحد، ومن أجمل الدراسات التي استخدمت في هذه الأجهزة كان على طائر يُعرف بقالب الصخر والذي قطع مسافة 27.000 كم في ذهابه وعودته لمناطقه الشتوية بأستراليا قطع فيها مسافات شاسعة بدون توقف بين أستراليا وسيبيريا، حيث قطع في مرحلة أولى من رحلته لمناطق تعشيشه بسيبيريا 7.600 كيلو متر بدون توقف.. قطعها وذلك في ستة أيام ليتوقف ليزود بالوقود في تايوان وفي البحر الأصفر الصين.. بعدها تحرك بدون توقف لمسافة تصل إلى 5000 كيلو متر ليصل لمناطق تعشيشه بسيبريا.. وللمعلومية فإنه يمكن الحصول على هذه النوعية من الأجهزة من عدة شركات، أما فيما يخص الجهاز على الطائر فهو مجمع من قبل شركة ألمانية تعرف بـ (E-Obs). ويمكن الحصول على معلومات عن الشركة من موقعها على الإنترنت (http://www.e/obs.de/). بالإضافة لذلك فإنه يمكن التعرف على المشاريع بالعالم التي تُستخدم لمتابعة الحياة الفطرية عن طريق موقع على الشبكة الإلكترونية يُعرف ببنك المعلومات لحركة الحيوانات بالعالم (www.movebank.org).. ويعرض فيه معظم الدراسات القائمة بالعالم والتي تستخدم هذه التقنية وغيرها من التقنيات المستخدمة والتي منها تقنية المتابعة بالأقمار الاصطناعية، وهذه الأجهزة تطورت كثيراً خلال العقود الثلاثة الماضية فقد كان حجمها خلال الستينيات من القرن الماضي يصل وزنها إلى أكثر من ثلاثة كيلو جرامات، والآن طورت شركة مايكرويف تليميتري أجهزة يصل وزنها إلى خمسة جرامات فقط.
ولمعرفة كيفية عمل هذه الأجهزة يتم الحصول عليها من شركات بعضها متخصص في مجموعات معينة من الحيوانات منها على سبيل المثال شركة (مايكرويف تليميتري) والمتخصصة في متابعة الطيور.. حيث تقوم بتقديم أجهزة الإرسال والتي تثبت على الطائر ترسل إشارات إلى القمر الاصطناعي، فيقوم هذا القمر باستقبال هذه الإشارات وتحديد مواقعها مشابهاً بذلك أجهزة تحديد المواقع، بعد ذلك تقوم الأقمار الصناعية بإرسال إشارات إلى المحطات الأرضية والمنتشرة حول العالم لتقوم بدورها بإرسالها إلى المحطة الرئيسة بمدينة تيلوز بفرنسا تابعة لشركة أرقص (Argos) والتي تقوم بتحليل هذه الإشارات وإرسالها للمستفيد من هذه الدراسة وذلك لقاء مبلغ معين.
ويمكن لأجهزة المتابعة تقديم معلومات أخرى غير الموقع كالارتفاعات عن سطح البحر والوقت حسب توقيت جرينتش ودرجات الحرارة للجو وكذلك نشاط الحيوان.. كما طوَّر عددٌ من الشركات هذه الأجهزة بحيث يمكن متابعتها أرضياً بواسطة مستقبلات تستقبل موجات عالية التردد (Very High Frequency» VHF»)، وأحياناً يُستعاض عنها بأجهزة أخرى.. إما تلصق على جهاز المتابعة بالأقمار الاصطناعية أو يركب على الجناح الطائر.. وهذا كله يعتمد على وزن الطائر.. حيث يفضل أن لا يزيد وزن الأجهزة المثبتة على الطائر عن 2-3% من وزن الطائر.. وهذه الأجهزة تستخدم في متابعة حركة الحيوان بمنطقة معينة للتعرف على حركتها والمساحة التي تتحرك بها.
وقد سبق استخدام هذه الأجهزة في متابعة الجوارح كالعقبان والنسور والحبارى بالمملكة، وقد دلت دراسة نسر الأذون في محمية محازة الصيد - والتي تقع شرق مدينة الطائف - أن هذه النسور التي تمت متابعتها تنقلت بين مناطق يُعرف أنها مناطق تعشيش لمجموعات لنفس النوع (النسر الأذون).. وهذا يعني أنه ربما يكون هناك تواصل بين المجموعات لهذه النسور، وربما ترجع أهمية ذلك إلى طبيعة التغذية لهذه الطيور في حاجتها للتعاون للاستدلال على مناطق الغذاء.
ومن الدراسات الأخرى التي تمت بالمنطقة باستخدام هذه التقنية ما تقوم به (هيئة أبو ظبي للبيئة) والتي قامت مشكورة بدعم سخي من صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد - يحفظه الله - بدراسة طويلة المدى لمتابعة الحبارى بعدد من دول الانتشار.. كذلك ساهمت في دراسة عدد من الأنواع ذات الأهمية العالمية في آسيا وأفريقيا.. ومن أهمها متابعة النسور، والأوز مخطط الرأس والصقر الحر والشاهين البحري في آسيا والحبرو الأفريقي في أفريقيا، ولقد كان لهذه الدراسات دور كبير في فهم حياة هذه الطيور مما سهَّل إعداد البرامج لحمايتها لتلعب دورها كما أمرها الله.
ولمعرفة كيف تهاجر النسور علينا معرفة سلوكياتها المختلفة خصوصاً خلال طيرانها، وقد أشار عدد من العلماء إلى أن الطيور تسلك سلوكيات مختلفة حسب حجمها وشكلها للتحرك من منطقة لأخرى.. فهي إما أن تطير بالرفرفة (تحريك الأجنحة).. أو التحليق (مد الأجنحة بدون تحريكها).. وغالباً ما تستخدم الطيور الصغيرة الطريقة الأولى (الرفرفة) كطيور الدخل والطيور الخواضة، بينما الطيور الكبيرة والعريضة الأجنحة كالجوارح فإنها تستخدم طريقة التحليق خلال طيرانها، والطيور التي تستخدم الرفرفة فإنها يمكنها الطيران بشكل متواصل لمسافات مختلفة حسب النوع حتى فوق المياه، أي أنها تستطيع قطع مسافات فوق البحار والمحيطات، وهذا يعني أن هذه المجموعة من الطيور تستطيع الطيران فوق البحر الأحمر لأفريقيا من نقاط مختلفة من فوق البحر تعتمد فيها على قوة أجنحتها.. وكذلك الرياح التي تساعدها على التحرك.
أما المحلقة والتي منها النسور فهي تواجه صعوبة بالطيران فوق المياه.. لذا فهي تعتمد إما على تيارات الحمل (الهواء الساخن) لرفعها عالياً بدون تحريك أجنحتها وذلك في المناطق السهلية، أما في المناطق الجبلية فهي تعتمد على الهواء الصاعد والذي يضرب الجبال مما يساعدها على رفع أجسامها، وتلعب حركة الرياح دوراً كبيراً في اتجاه هذه الطيور، لذا فإن الطيور قد تتغير من مسارها بين فتره وأخرى حسب اتجاه الرياح فنجد بعضها كعقاب السهول في سنة تقضي الشتاء بالجزيرة العربية وسنة أخرى تقطع مضيق باب المندب لتقضي الشتاء في أفريقيا.. ولقد أشارت دراسة عن طريق المتابعة بالأقمار الصناعية إلى أن عدداً من الطيور المحلقة تطير بمحاذاة ساحل البحر الأحمر إلى أن تصل إلى منطقة باب المندب لتقوم بالتحليق قبل أن تقطع البحر إلى جيبوتي، وقد سجل في إحدى الدراسات بجيبوتي أكثر من نصف مليون طائر جارح يقطع خلال شهر أكتوبر فقط ليصل لمناطقه الشتوية بأفريقيا.
ومن مميزات الطيران بالتحليق هي أنها أقل تكلفة على الطائر من حيث صرف الطاقة من الطريقة الأخرى (الرفرفة)، فهي لا تحتاج إلى أن تتغذى كثيراً قبل أن تتحرك من مناطقها ولا تحتاج للتوقف في أماكن معينة للتغذية، وعلى أية حال فغذاء النسور غير محدد أماكنه فهي كما قلت سابقاً تتغذى على الحيوانات النافقة وهذه النوعية من الغذاء غير محدد مواقعها.. لذا فهي تعتمد بشكل كبير على بعضها في إيجاد مناطق تغذيتها فعندما تحلق كل مجموعة باتجاه فإنها تغطي منطقة شاسعة، وتدل بعضها البعض على مواقع الغذاء عن طريق التحليق فوق منطقة الغذاء مما تدل المجموعات الأخرى على مناطق الغذاء بمجهود أقل.
وأخيراً هناك هجرة تُسمى بهجرة نطة الضفدعة (Leapfrog Migration).. وهذه هجرة تعرف بأن الطيور المهاجرة تطير في مناطق بها مجموعات غير مهاجرة، ويمكن أن يحصل فيها تزاوج وهذه المجموعات التي تحدث فيها اتصالات مهمة لبقاء النوع وتجديد الجينات فيما بينها.. وهذه المجموعات تُعرف علمياً بـ(Metapopulation).
والطيور الجوارح والتي منها النسور عُرف عنها هذا السلوك خصوصاً الصقور.. حيث سجل قيام بعض إناث طيور الجوارح بالتزاوج مع طيور ليست بالغة ومهاجرة من غير ذكورها.. وهذا يعني أن حركة الطيور بين المناطق مهمة في تجديد الدماء بين المجموعات في مناطق انتشارها.. وهذا ربما يحدث للمجموعات التي لدينا، فنسر مهاجر من جورجيا ربما يكون أباً لنسر لدينا.. وربما نسر آخر يفقس في منطقة تنومة بعسير ربما يكون أباً لنسر آخر من صربيا.
قبل أن أُنهي هذه السطور.. أود أن أشير إلى أن هناك اهتماماً عالمياً ومحلياً بدراسة هذه النوعية من الطيور لدورها في النظام البيئي ووقّعت اتفاقيات دولية لحماية مساراتها ودأب العلماء لمعرفة أسرار الهجرة للطيور والحيوانات المهاجرة الأخرى حتى يتم حماية مناطقها ومساراتها، وما الدراسات العلمية التي يقوم بها العلماء حول العالم على هذه الطيور وغيرها من الحيوانات إلا شاهد على أهميتها، ونحن هنا في هذا البلد المعطاء تحت قيادة وتوجيه ملك الإنسانية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - يحفظه الله - وولي عهده الأمين والنائب الثاني، فقد قام عددٌ من الجهات العلمية بدراسات عن هجرة الطيور وأنواع أخرى كالسلاحف البحرية وأسماك قرش الحوت وأنواع أخرى.. وذلك من مسؤوليتها نحو الحياة الفطرية في هذا البلد وفي العالم، فوقّعت اتفاقية التنوع الأحيائي واتفاقية (بون) للأنواع المتنقلة وغيرها من الاتفاقيات ذات العلاقة بالمحافظة على التنوع الحيوي.. وفي الختام أدعو الله أن يحفظ هذا البلد وأهله.. وكل ما فيه من خيرات وتراث فطري وهبنا الله إياها... وأعان أهل جدة على مبتلاهم.. إنه سميع مجيب.