لن تعتري أي إنسان حالة استغراب أو دهشة حين يسمع عن حرص حكومة هذه البلاد على دول الجوار وإقامة علاقات الأخوّة والمحبة معها، والاهتمام بكل شؤونها، وذلك من باب المسلم أخو المسلم؛ فالمملكة العربية السعودية بمثابة الأخ الأكبر في مجموعة الأبناء. والملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود مؤسس المملكة العربية السعودية هو من غرس شجرة هذا الاهتمام بدول الجوار، ورعاها وسقاها، يدفعه إيمانه بدينه دين الإسلام ومبادئه التي يفخر ويعتز باتباعها، كما يدفعه إلى ذلك الهاجس الأمني لبلده فاستقرار من حوله استقرار له؛ كون الملك عبدالعزيز يعلم أن الاتفاق مع دول الجوار يمنحه مساحة واسعة غير محدودة لأن يهتم بالبلاد تطويراً وإعماراً ونهضة وتقدماً، وكل ذلك دليل - ولا شك - على عبقرية الرجل ونظره الثاقب طيب الله ثراه. يقول الدكتور محمد بن سليمان الخضيري في كتابه (تطور السياسة الخارجية في عهد الملك عبدالعزيز ودور المملكة في تأسيس المنظمات السياسية الإقليمية والدولية ودعمها): «تشرب الملك عبدالعزيز مبادئ السياسة عموماً، وملامح السياسة الدولية خصوصاً، وهو في سن الشباب عندما كان في الكويت مع والده الإمام عبدالرحمن بعد سقوط الدولة السعودية الثانية؛ ففي ذلك الوقت كانت الكويت تعج بالمباحثات والتحاورات السياسية في مجلس الشيخ مبارك الصباح أمير الكويت بين ممثلي الدول العظمى في ذلك الوقت (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والدولة العثمانية)».(الخضيري 138). وهكذا تربى الملك عبدالعزيز وبرز على أقرانه، تخدمه عقلية متفتحة ونباهة عالية وذكاء حاد.. يقول الخضيري: «وقد أظهر الملك عبدالعزيز منذ صغره نباهة فائقة؛ ما دعا الشيخ مبارك إلى أن يفسح له المجال في حضور تلك المجالس، بل والمشاركة أحياناً في بعض المناقشات» (الخضيري 138).
لم يكن الملك عبدالعزيز في حربه وجهاده طامعاً في أرض غير أرضه، ولم يهدف للتوسع على حساب دول محيطة لها كيانها واستقلاليتها، بل كان هدفه هو تحرير أرض آبائه وأجداده والحرب على الجور والحيدة عن الصراط المستقيم وإشاعة الأمن الذي تزعزع وانعدم وأصبح المسلم يخاف على نفسه وعرضه وأرضه ولا يستطيع الذهاب لأداء الحج مع أنه قادر عليه في حال وجد الأمن والاستقرار، وكان في كل كلمة لجنده ومعاونيه أثناء حروبه يردد ويؤكد حرصه على إقامة العلاقات الطيبة مع كل دول العالم، وخصوصاً دول الخليج العربية؛ لذا كان أول خطاب مباشر بين الملك عبدالعزيز والعالم الإسلامي ذلك الخطاب الذي وجهه إلى ملوك المسلمين والجمعيات والهيئات الإسلامية في 10 ربيع الأول 1343هـ من مكة المكرمة يدعوهم فيه إلى مناقشة أوضاع الحجاز. يقول الدكتور صالح بن عبدالله الراجحي في كتابه (علاقات المملكة العربية السعودية بدول الخليج.. العلاقات السياسية التي جاءت ضمن سلسلة البحوث والدراسات التي أصدرتها دارة الملك عبدالعزيز بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة العربية السعودية): «لقد ترجم الملك عبدالعزيز - وذلك حتى قبل اكتمال التأسيس النهائي للمملكة - أقواله إلى أفعال ملموسة ومخلصة لتطوير علاقاته بالدول المحيطة بمملكته، وعلى وجه الخصوص دول الخليج العربية، وذلك من خلال توقيع العديد من الاتفاقيات، وكان القصد من ذلك إدخال الطمأنينة، وبناء الاستقرار، وإرساء دعائم الأمن في المنطقة، وإيجاد علاقات متينة، ترعى المصالح المشتركة، وقد نجح الملك في تحقيق الهدف على الرغم من المحاولات العديدة من قِبل قوى خارجية للحيلولة دون تحقيق ذلك» (الراجحي 224).
كان الملك عبدالعزيز - بتوفيق الله - يعلم أن سبيل تطوير البلاد وإقامة المشاريع والنهوض بها لينعم كل مواطن بعيش رغيد وأمن وأمان هو أن ينهي كل ما يخص حدود بلاده من ترسيم للحدود وتوقيع الاتفاقيات والمعاهدات التي تجلب الطمأنينة وتجعل دول الجوار مأمونة الجانب، ولعلنا نتخيل بلاداً واسعة حدودها مترامية تشكّل مساحتها المساحة العظمى من الجزيرة العربية، وكل دولة من دول الجوار لها خصوصيتها السياسية والاجتماعية والثقافية، فمنها من هي واقع تحت احتلال واستعمار، ومنها من هي مستقلة لها سيادتها وكيانها، ومنها من هي تحت وصاية دولة أخرى أو لها اتفاقيات مع كيانات ودول قد تحمل العداء لعبدالعزيز ودولته، فالأمور معقَّدة وصعبة، فضلاً عن انشغاله بالداخل ومشاكله التي لم تنتهِ. يقول محمد زيان عمر في كتابه (العلاقات الدولية للمملكة العربية السعودية): «كان أهم ما واجه الملك الباني هو ترسيم حدود المملكة العربية السعودية مع دول الجوار في الجزيرة العربية، ومع الدول التي تقع تحت انتداب الدول العظمى في الهلال الخصيب، إضافة إلى بعض التطورات الداخلية المهمة، منها حركة الإخوان، والتطور الدستوري» (محمد زيان عمر 35). ويقول في الحديث عن القضايا التي واجهت الملك المؤسس رحمه الله، مثل الهجرة والرعي والزكاة التي كانت تدفع من قِبل القبائل لدول الجوار والجهود في ترسيخ مفهوم السيادة غير المقبولة لدى القبائل: «ولكن الملك عبدالعزيز بحكمته وأسلوب حكمه وإرادته السياسية وبُعد بصيرته استطاع التغلب على مشكلات الحدود بالطرق السلمية مع جيرانه، واستطاع ترسيخ دعائم الأمن على الحدود السعودية مع دول الجوار، وكان لدبلوماسية الملك عبدالعزيز الأساس في استتباب الأمن والنظام على الحدود المشتركة بين العراق والكويت والأردن، ووقعت سلسلة من الاتفاقيات بين عامَيْ 1931م - 1938م مع العراق تتعلق بأمور الجمارك وإدارة المنطقة المحايدة وهجرة القبائل والرعي وتحديد هوية القبائل» (محمد زيان عمر 37). ونجد حرصه على ذلك في الخطاب المطول الذي أرسله في 8 أكتوبر 1932م إلى الإمام يحيى مبدياً رغبته في المحافظة على السلم والصداقة مع الجيران عامة واليمن خاصة، وقد أبدى جلالته في خطابه أهمية الوصول إلى اتفاق بشأن: (1) تثبيت الحدود بشكل واضح. (2) الاتفاق على التعاون والتعاضد في حالة العدوان سواء من الداخل أم الخارج. (3) تحديد صلات أمراء الحدود.
وقد تم توقيع أكثر من 70 معاهدة واتفاقية في عهد الملك عبدالعزيز، وذلك في المدة ما بين عام 1922م - 1951م، شملت معاهدات واتفاقيات حدودية وأمنية واقتصادية وصداقة. وزاد عدد تلك الاتفاقيات والمعاهدات ليصل إلى قرابة 135 معاهدة واتفاقية في أواخر 1973م. لقد كان نصيب دول الخليج ومشيختها بما في ذلك إيران والعراق من الاتفاقيات والمعاهدات الموقعة في عهد الملك عبدالعزيز قرابة 22 اتفاقية ومعاهدة، منها ما يخص مسائل حدودية وأمنية واقتصادية وصداقة.. كان من أهمها اتفاقية العقير لتحديد الحدود بين نجد والكويت، وإقامة منطقة محايدة بين البلدين في الثاني من ديسمبر 1922م. (الراجحي 225).
لقد علمت كل الدول العربية والإسلامية والعالمية صدق الملك المؤسس، ورأت فيه القائد الفذ الذي يتطلع لمستقبل مشرق لبلاده، وأن هذا الرجل العظيم لا يريد اعتداء ولا بناء عداوات، وعلى هذا فقد اعترفت الدول بعبدالعزيز ودولته قبل أن يكتمل التوحيد. يقول (محمد زيان عمر 40) بعد أن تحدث عن الخطاب المباشر مع دول العالم الإسلامي في عام 1343هـ: ثم توالت الاعترافات بالملك عبدالعزيز من الدول الإسلامية، ووقعت معاهدة صداقة مع إيران 1348هـ ومع تركيا 1348هـ ومع أفغانستان 1931م ومع مصر 1936م ومع العراق 1349هـ، ووقع حلف سعودي عراقي 1355هـ، وانضمت اليمن إلى الحلف 1356هـ. وما يخص الدول العالمية الأخرى يقول الخضيري: «أما التفاعل الدولي مع قيام الدولة السعودية والاعتراف بها فقد حصل بشكل واضح بعد استعادة الملك عبدالعزيز الحجاز، حيث بعثت قنصليات الدول الأوروبية وغيرها تقارير إلى حكوماتها مفيدة باستقرار الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد السعودية، وأوصت حكوماتها بالإسراع في الاعتراف بالحكم السعودي، ومن أهم الدول الأجنبية التي اعترفت بحكم الملك عبدالعزيز في ذلك الوقت حكومة الاتحاد السوفييتي ثم الحكومة البريطانية ثم الحكومة الهولندية ثم الحكومة الفرنسية...» (الخضيري 132).
وهنا وقفة فحواها مدهش ومحتواها بالغ الأهمية، هي: هذه الاتفاقيات والمعاهدات والاعترافات مع دول العالم حصلت ووقعت والملك عبدالعزيز لم يغادر لها أو يذهب ويسافر ليقيم احتفالا بتلك المعاهدة أو هذه الاتفاقية؛ فالرجل العظيم هو من يسعى له ملوك الأرض وزعماء الدول ورؤساء الهيئات، والرجل المهم هو من يطلب رضاه الجميع ويخطب وده كل أهل الأرض، وهكذا هو عبدالعزيز تتهافت عليه المعاهدات والاتفاقيات وطلبات الصداقة وحسن الجوار من أقطاب الأرض كونه قائداً عظيماً، ودبلوماسياً رفيعاً، هيبته أرهبت الزعماء والملوك والرؤساء، «ولا شك أن قيام الدولة السعودية على يد الملك عبدالعزيز أحدث تغيراً في استراتيجيات الدول الكبرى في نظرتها السياسية لهذه المنطقة؛ ولذلك نرى تلك الدول تتسابق في إرسال المبعوثين والمندوبين للالتقاء بالملك عبدالعزيز، وسبر غور السياسة السعودية» (الخضيري 139). لذا كانت رحلات الملك عبدالعزيز للخارج محدودة تعد على أصابع اليد الواحدة، يقول فاروق عثمان محمود أباظة في كتابه (زيارة الملك عبدالعزيز لمصر وأثرها في دعم العلاقات السعودية المصرية): «فعلى الرغم من كثرة رحلاته وأسفاره داخل بلاده الشاسعة التي لا تنتهي طوال العام، إلا أنه لم يخرج من بلاده بعد توليه الحكم فيها إلا أربع مرات، زار خلالها في المرة الأولى البحرين والكويت والبصرة خلال الحرب العالمية الأولى، وفي المرة الثانية سافر إلى العراق حيث التقى بملكها فيصل في الثالث والعشرين من شهر رمضان 1348هـ، أما في المرة الثالثة فقد جاء فيها إلى مصر في الثاني من ربيع الأول 1364هـ ليقابل الرئيس روزفلت رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وونستون تشرشل رئيس الوزراء البريطاني، كما التقى الملك فاروق حينذاك، على حين كانت المرة الرابعة والأخيرة هي زيارة جلالته الرسمية لمصر في شهر صفر 1365هـ». (فاروق أباظة 388).
وقد كانت زيارة الملك عبدالعزيز لمصر هي الزيارة الرسمية الوحيدة للملك عبدالعزيز حيث جاءت بدعوة من الملك فاروق وجهها للملك عبدالعزيز أثناء الزيارة التي قام بها الملك فاروق للمملكة العربية السعودية في صفر 1364هـ، وعدت الصحف المصرية أنه من المصادفات السعيدة أن «يوم 7 يناير 1964م الذي غادر فيه جلالة الملك عبدالعزيز جدة قادماً إلى مصر يوافق اليوم الذي أتم فيه الملك عشرين عاماً على مبايعته ملكاً على الحجاز وسلطاناً لنجد وتوابعها.. كما أوردت الصحف المصرية أن الشعب المصري يحيّي عاهل الجزيرة والقطب العربي الكبير، وأن مصر تسجل في تاريخها الحديث هذه الزيارة الكريمة بصفتها أسعد حدث من أحداثها المهمة، وتعتز بضيفها العظيم». (فاروق أباضة 388).
سعد بن دخيل بن سعد الدخيل - ثرمداءSDOKHAIL@GMAIL.COM