الأخلاق هي السلوك المثالي للإنسان، وهي الوحدات الأولية في تركيبة الطبيعة الإنسانية (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، أخلاق النزاهة والصدق والوفاء بالعهود واستيفاء الحقوق (حلف الفضول)، بينما الأخلاقيات هي مجموعة الممارسات الاجتماعية التي قد لا تكون بالضرورة سامية في المنظور الإنساني العام للأخلاق، وهي قد تعتبر علامات يختص بها علم الظواهر، وتخضع للقياس والعرف والغلبة، وقد تكون سمات تفرزها بيئة الاستبداد..
تنتشر في مجتمعاتنا العربية حدود غير واضحة بين ما يطلق عليه الأخلاقيات المحمودة، والأخلاقيات المذمومة، فمثلاً يصعب قياس الفرق بوضوح بين أخلاقيات التدين وأخلاقيات الإرهاب، وبين الكرم والتبذير، وبين التحضر والابتذال، وتضيع الحدود بين الشجاعة والتهور، وتختفي تماماً الفروقات عند محاولة رصد التباين بين سمة الصراحة وصفة الوقاحة، ..، كما تزدوج دلالاتها وعلاقاتها في المجتمع الذي تحكمه أعراف أخلاقية مكتسبة، فتنتشر مثلا عادة الرشوة تحت مسميات مثل المكافأة والحافز، وتتفشى العنصرية والإقليمية من أجل صلة الرحم وذوي القربى، لكن تلك الأخلاقيات المزدوجة المفاهيم تأخذ منحنى مختلفاً في مجتمع القانون، فتختلف معاييرها، وتضعف سلطاتها الاجتماعية والسياسية.
عادة تشرع ثقافة الاستبداد والطغيان معايير الأخلاقيات تحت شعار الحفاظ على مكارم الأخلاقيات السلطوية، وتؤسس أجهزة للتحكم في حدودها، لذا ينتج نظام الاستبداد المخبرين والوشاة والرشاة والجلادين والضحايا، ويصبح المجتمع بسبب قبضتها محكمة كبرى قضاتها الحزم والقوة والمعروف والمروءة والعفو والثقة والولاء، وتصبح القضايا التي تنظر فيها الغدر والخيانة والكفر والعمالة والتمرد، بينما في جانب آخر يلغي مجتمع القانون سلطة الأخلاق ذات الوجوه المتعددة، ويرسم حدوداً فاصلة لا غبار عليها بين الجريمة والبطولة، وبين التهور والشجاعة، وبين الفساد والولاء للقبيلة أو الطائفة أو الإقليم.
إن استبداد قبضة الأخلاقيات المتعارف عليها وغير المنضبطة بقانون أو دستور، يزيد من درجة العنف المتبادل، ويرفع من استغلال تلك المعايير المرتبطة بالمصالح، فيصبح مثلاً الالتزام بها مثلاً معياراً للتميُّز والنجاح والتقدم في الحياة العملية، فتسقط معايير المهنية والابتكار والإبداع، و يؤدي تحكم تلك الأخلاقيات المسيسة- إن صح التعبير- إلى خروج جبهات مضادة لها في السر، فتنشأ في الظلام نقائضها، ويتم في الخفاء تداول أخلاقيات مناهضة لها، وعند استشرائها، يصعب تماماً التخلص من تأثيراتها، فتحدث الفوضى، ويتنافر الأفراد وتتضاد مصالحهم ومنافعهم وولاؤهم..
قال الكواكبي قبل مائة عام: إن «الاستبداد يتصرف في أكثر الأميال الطبيعية والأخلاق الحسنة، فيضعفها أو يفسدها أو يمحوها، فيجعل الإنسان يكفر بنعم مولاه، لأنه لم يملكها حق الملك ليحمده عليها حق الحمد، ويجعله حاقداً على قومه، لأنهم عون على بلاء الاستبداد عليه، وفاقداً حب وطنه، لأنه غير آمن على الاستقرار فيه، ويود لو انتقل منه، ويصبح ضعيف الحب لعائلته لأنه ليس مطمئناً على دوام علاقته معها، ومختل الثقة بصداقة أحبابه لأنه يعلم أنهم مثله لايملكون التكافؤ، وقد يضطرون لإضرار صديقهم بل وقتله وهم باكون.، أسير الاستبداد لايملك شيئاً ليحرص على حفظه، لأنه لايملك مالاً غير معرض للسلب، ولا شرفاً غير معرض للإهانة...
ويضيف- رحمه الله-: أقل ما يؤثره الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم حتى الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ولبئس السيئتان،، فلا اعتراض ولا انتقاد ولا افتضاح، لأن أكثر أعمال الأشرار تبقى مستورة، يلقي عليها الاستبداد رداء خوف الناس من الشهادة على ذي شر، وعقبى ذكر الفاجر بما فيه، ولهذا شاعت بين الأسراء قواعد كثيرة باطلة، كقولهم: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، وقولهم: البلاء موكول بالمنطق.، ويضيف الشيخ الكواكبي أن فعل الاستبداد بالأمة يحوّل ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفل، بحيث لو دفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور، وإذا ألزمت بالحرية تشقى وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أطلق سراحها.
في عصر الثورات الشعبية تنهار قيم الاستبداد وتذوب أسس الأخلاقيات المسيسة بسبب خطاب الغضب المضاد، بعدما كانت مهيمنة لعقود تمجد الزعيم، وتهتف لحياته، وتحمي مصالحه، فيتحول الطاعة إلى عصيان، ويصبح المدح ذماً، ويصبح العطاء فساداً، ووصل القربى انحيازاً، لكن الطلقاء الجدد من سجن الاستبداد قد يواجهون صدمة الحرية، لأنها حالة مختلفة، فقد تكون نعمة إذا تم ضبطها بالقانون واحترام الآخر والتعددية، لكنها قد تكون نقمة وشرا مستطيرا إذا استغلها بعضهم لفرض سلطة جديدة على البهائم المتحررة من القيود....