رغم تسليم أي عاقل بصحة وعدالة طلبات الشعوب العربية المسالمة، سواء تلك المسيرات التي نراها حالياً أو سابقا، إلا أن واقع الحال يقول فتش عن الأعداء، فهي الحركة الاستغلالية التي لا تهدأ ولا تنام، وهي إخطبوط متفرع ممتد، ولا سيما في الدول الكبرى وبالأخص بلاد العم سام أمريكا التي حاربت الاستعمار في بداية ظهورها كدولة عظمى، ثم ظهر أن الواقع ليس حبا في الشعوب المُستعمرة المظلومة، وإنما لأنها تريد أن تكون السيدة الأولى والأخيرة على الساحة بلا منازع.
بعد ذلك قامت تستكمل دورها مع تلك الشعوب باستعمار عصري جديد لا يقل ضراوة عن غيره من أنواع الاستعمار القديمة، متمثلا في تدخلها السافر المهين في كثير من الشؤون الداخلية للدول العربية، مستغلة بعض جوانب عدم العدالة فيها من قبل بعض قادتها، وتحريك المظلومين الذين لم يعد يرى بعضهم شيئا يخاف عليه في واقعه المؤلم، وبالتالي قلّ جانب الانتماء الوطني لديه.
فليت الدول الغربية وفي مقدمتها أمريكا يكفّون عن إطلاق دموع التماسيح غير المقنعة على أحوال الشارع العربي، لأن المواطن فيها لم يعد يصدقها على الإطلاق، لأنه يرى تلك الدموع تجف جفافا تاما في حالة الظلم الصهيوني الشنيع تجاه الشعب العربي الأعزل في فلسطين وهو يباد إبادة عرقية شرسة، بل وتستكثر على الشعوب العربية مجرد الاستنكار الذي تنفس به عن كربها، مستخدمة في ذلك القمع المستمر حق الفيتو الظالم.
كما أن أمريكا هي ذاتها التي سحقت الشعوب المدنية في العراق وأفغانستان، فحولت بلادهم خرابا يبابا، وجعلت شعوبها جيوشا من المشردين والجياع والمعوقين، دون رادع من إنسانية أو ضمير أو هيبة من عدالة القدر والتاريخ، كل ذلك بمعونة حلفائها الغربيين الذين يتباكون معها على حقوق الإنسان الضائعة في البلاد العربية.
فكم تتمنى الشعوب العربية من تلك الدول أن ترفع أيديها عن العرب حكاما ومحكومين، وعندها فقط سوف يعرفون كيف يحلون مشكلاتهم بأنفسهم، لأن أسلوب تأجيج الفتن واستغلال الفرص هو أسلوب مرفوض من قبل كل الشعوب العربية والإسلامية، حتى ممن هم في خلاف مع توجهات قادتهم، ولا يستثنى من ذلك إلا حفنة من الخونة الذين جعلوا مصالحهم قبل مصالح أوطانهم وشعوبهم، فهم على استعداد للتحالف حتى مع الشيطان متذرعين بذرائع متعددة غير مقنعة.
بل لتعلم أمريكا وحلفاؤها أن هذا السعي الحثيث الأعرج نحو حقوق الإنسان ضد بعض الحكام، ينقلب إلى نتيجة عكسية لدى الشعوب العربية الواعية التي أضحت تقرأ ما بين السطور، وتعرف ما يخبأ لها تحت طاولات الاجتماعات المشبوهة ونتائجها المتناقضة، مما يجعلها تتعاطف مع القائد الذي يضعه الغرب في القائمة السوداء، حتى ولو كان عليه بعض المآخذ.
إن أعداء العرب متعددون متربصون، فهاهي إيران التي حينما ظهرت فيها مثل هذه المظاهرات سمتها بالمؤامرة وأطلقت على أصحابها لقب العملاء وزجت بهم في المعتقلات، وأعملت فيهم التعذيب والاغتيالات، ثم نرى الآن حاكمها الديني خامنئي يسمي ما يجري في الدول العربية من مظاهرات ومسيرات واستغلال لها (ببداية الثورات الإسلامية المشابهة لثورة الخميني)، فيا سبحان الله كم يزن كل هؤلاء الأمور المتشابهة بموازين متناقضة.
لذا فلم يتبقّ أمام العرب في واقعنا المعاصر حكاما ومحكومين إلا أن يزنوا أمورهم بميزان العدالة والتقوى داخل مظلة وحدتهم الوطنية، لا يتركوا ثغرة ظلم أو حيف أو فساد، يستطيع الأعداء المتربصين النفاذ منها والدندنة على نغماتها النشاز.