مرت البشرية منذ فجر التاريخ بثلاث ثورات صناعية كُبرى أسفرت عن تطورات اجتماعية واقتصادية وسياسية هائلة. الثورة الصناعية الأولى انفجرت قبل ثمانية آلاف عام عندما اكتشف الإنسان أن بإمكانه زراعة المحاصيل التي يتغذى عليها بدلاً من الاعتماد على الصيد والتقاط الثمار. ونتج عن هذا التحول الاستيطان وبناء المدن وقيام الدول والحكومات ونشوء الحضارات.
ثم بدأت بذور الثورة الصناعية الثانية، عصر الآلة، قبل حوالي خمسمائة سنة راسمة خط التحول في مسيرة الحضارة من الشرق الأوسط نحو أوروبا والعالم الجديد. وفيها انتقل الإنسان من الاعتماد على الجهد العضلي للإنسان والحيوان إلى الاستفادة من طاقة الاحتراق لتوليد الحركة.
ومن الأسماء التي ارتبطت بهذه المرحلة رجل عربي مسلم اسمه محمد بن معروف الشامي السعدي، ولد في دمشق ودرس في مصر وانتقل إلى عاصمة الخلافة العثمانية قاضياً ومؤلفاً ومُخترعاً. ويُعد كتابه (الطرق السامية في الآلات الروحانية) أول وصف علمي دقيق لاختراع الآلة البخارية التي أصبحت رمز الثورة الصناعية الثانية. وهي في أبسط صورها عبارة عن أسطوانة (سلندر) يندفع داخلها بخار الماء المغلي ليُحرك ذراعاً مرتبطة بعجلة بطريقة تُحول الحركة الترددية إلى حركة دورانية.
استُخدمت هذه الآلة في البداية لدفع القطارات الحديدية ثم لتوليد الكهرباء، ولا تزال توفر أكثر من ثمانين بالمائة من الكهرباء. ثم حل الديزل والبنزين محل بخار الماء في صناعة الحركة لاسيما في محركات السيارات والطائرات. ارتبطت هذه المرحلة بتغيرات سياسية واجتماعية هائلة من بينها: انبثاق عصر التنوير في أوروبا والثورة الأمريكية ثم الثورة الفرنسية، ومرحلة الرأسمالية، والمرحلة الرومانسية، والثورة الشيوعية، ثم الرأسمالية المعتدلة. استمرت هذه المرحلة حتى بداية عصر الكومبيوتر في سبعينات القرن الميلادي الماضي، وما يُمكن وصفه بالثورة الصناعية الثالثة.
في هذه المرحلة سيطر الإنسان على الإلكترونات وسخرها لخدمة عقله، مما ضاعف من قدرة التفكير وكفاءته إلى درجة تفوق الخيال، ثم التحمت هذه المرحلة مع الاتصالات والإنترنت، ثم امتدت منذ ثلاث سنوات نحو عالم الإعلام المفتوح والتواصل الاجتماعي الحر، راسمة معالم عالم آخر يعيش فيه البشر ويتعارفون ويتبادلون الأفكار والأخبار بعيداً عن أي قيود أو رقابة.
وكما هو الشأن في الثورتين الصناعيتين السابقتين ستقترن المرحلة الحالية مع تطورات اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة وغير مألوفة وتسبق كل الاستعدادات للتعامل معها، وستصطبغ هذه التطورات بالشفافة والحرية والمساواة. لعل من آثار هذه المرحلة نشر وثائق (ويكيليكس) ومن إرهاصاتها ما جرى ويجري الآن في تونس ومصر الشقيقتين.