لا داعي للتأكيد للمرة الألف أن قيادة إيران تريد اللعب في وقت العرب الضائع، أو ما تتوهم أنه كذلك. ولا داعي للتأكيد للمرة المليون أن القيادة الإيرانية عينت نفسها مشرفاً عاماً على المجتمعات والدول العربية
لذلك تراها تعطي نفسها حق التدخل بلا حدود أو قيود في الشؤون العربية، واستغلال الوضع العربي لادعاء الدفاع عن أمتهم ومصالحها، خصوصاً منها تلك التي تريد منافستهم عليها وانتزاعها من أيديهم لما لها من مكانة معنوية وروحية لدى المواطن العربي كالقضية الفلسطينية، التي لم تجد طهران ما تفعله ل»خدمتها» غير العمل على شق صفوف الشعب الفلسطيني ومنظماته، وتحريضها بعضها ضد بعض، والإيقاع بينها بحجة أن من لا يوافقون على سياساتها الفلسطينية «خونة» يجب التخلص منهم، وهذا ما تسبب في إدخال الشعب الفلسطيني في متاهة لم يعد يعرف كيف يخرج منها، أفاد منها العدو الإسرائيلي، الطرف الذي يتمسك بالانقسام ويعمل على تعميقه وتوطيده، ويحرص عليه لأنه يعينه على الإساءة للقضية الفلسطينية وتقويض شرعيتها الدولية والمحلية، حتى غلبت خلافات الفلسطينيين بعضهم مع بعض على تناقضهم مع العدو، الذي تتكامل مواقفه مع السياسات الإيرانية، الحريصة بدورها التمسك بتصنيف الفلسطينيين إلى مقاومين جبابرة ومفاوضين خونة ومستسلمين، على الرغم من أن المقاومين لم يقصروا في حراسة الكيان الصهيوني وتكريس معظم جهودهم العسكرية والسياسية لحمايته من أية صورايخ وقذائف يمكن أن تطلق عليه من الأراضي التي تخضع لسيطرتهم، الأمر الذي يجعلنا نستنتج أن الغرض الإيراني من الانقسام هو الانقسام وليس مصلحة فلسطين أو تعزيز مقاومتها! وللأسف، فإنه لا يكاد يمر يوم دون تصريح أو أكثر لقائد أو أكثر من قادة إيران.
وللأسف أيضاً فإن هذه التصريحات لا تترك شاردة أو واردة، صغيرة أو كبيرة لدى العرب إلا وتجعلها محل تعليق أو تدخل أو توجيه أو أمر يصدره هؤلاء.
آخر ما حرر في بابه بهذا الخصوص، تلك الخطبة التي ألقاها «المرشد» علي خامنئي يوم الجمعة الماضي في طهران باللغة العربية، التي رفض دوما استخدامها في أحاديثه مع قادة الدول العربية، على الرغم من أنه يتقنها، وأصر على اللغة الفارسية - مثلما يصر على الخليج الفارسي - خلال استقباله ضيوفاً عرباً، وينتظر ترجمة أقوال هؤلاء قبل أن يجيب أو يعلق عليها، مع ما يتطلبه ذلك من وقت ومن قدرة على التصنع.
فجأة اكتشف خامنئي أنه يعرف العربية، وتوجه بخطبته إلى المصريين طالباً إليهم إقامة جمهورية إسلامية في بلادهم، باعتبار أن حركتهم الحالية هي جزء من اليقظة الإسلامية، التي أحدثتها ثورة إيران.
هنا أيضاً، التقى «المرشد» مع التهمة التي وجهتها «إسرائيل» إلى القوى التي نزلت إلى الشارع في مصر، وزعمت أنها إسلامية ومتطرفة وإرهابية، مع أن القوم أنكروا التهمة من أساسها، وتعهدوا أن لا يرشحوا ممثلاً لهم لرئاسة الجمهورية، ولا يخرجوا على إجماع بقية القوى المصرية.
فهل أصدر خامنئي أمره إلى المصريين حباً بمصر والمسلمين؟
وأية حرب أهلية ضارية ومدمرة ستحدث، إذا ما استجاب المصريون لطلبه؟
ومن يضمن أن لا تثير طلبات خامنئي قوى متطرفة وتدفعها إلى ساحة الإرهاب والإجرام، على غرار ما عاشته دول عربية أخرى، اخترقتها إيران وانتهجت حيالها سياسة الوقيعة بين مواطنيها.
لا أظن أن خامنئي يجهل حقيقة أن مصر أكبر وأعظم من أن تتلقى أوامر أو توجيهات أو إرشادات منه أو من غيره.
ولا أعتقد أنه يتحدث حباً بمصر، الدولة التي يمكن أن تلعب دوراً فاعلاً جداً في تحجيم الهجمة الإيرانية على الوطن العربي، وفي كبح استباحة طهران للمجال العربي، التي تتصاعد يومياً منذ قرابة عقد ونيف، حتى أن أحمدي نجاد، رئيس الجمهورية الإيرانية، قال أكثر من مرة إن بلاده صارت العنوان الذي يجب أن يتجه إليه كل أجنبي يريد التحدث عن العرب ومشكلاتهم، وأعلن أن إيران تمسك بورقتهم، وأنها صارت الجهة التي تستطيع التفاوض بالنيابة عنهم، وترتيب أمورهم، ولكن في غيابهم وإلا فإنها لن تتمكن من خدمة مصالحها، التي لم يعد أحد يجهل حقيقتها.
هذا الكلام الذي وجهه نجاد بصراحة إلى أميركا، ودعا إلى تقاسم المنطقة العربية بين واشنطن وطهران، يدعي أنه يريد خدمة العرب ومصالحهم، وأنه لا يريد غير خوض معارك نزيهة تضحي إيران خلالها بأبنائها من أجلهم، دون أن تطلب أي مقابل أو تكون لها أية مطامع أو مطامح خاصة، مع أن القاصي والداني يعلم علم اليقين أن المجال العربي هو الفسحة الرئيسة التي تتحرك إيران فيها، وتبني نفوذها الإقليمي عل الإمساك بأوراقها، وتركز 90 % من جهودها عليها.
لا يعرف قادة إيران، على ما يبدو، أن هناك قانوناً دولياً يمنع أي بلد من أن ينصب نفسه مشرفاً أو سيداً على غيره، وأن من فعل ذلك في الماضي كان «الاستعمار» وما يفعله اليوم هو الصهيونية، وأن زمانه مضى وانقضى، فمن العبث محاولة استعادته أو العيش فيه، باسم أي مبرر أو سبب، خصوصاً إن تم السعي إليه باسم الشعوب وقيمها، التي ما منع القانون والعرف الدولي التدخل في أمورها إلا لحمايتها من التلاعب بوجودها ومصالحها وقيمها.
كيف يوفق القادة الإيرانيون بين مصادرة قضايا ومصالح وإرادة أمة عظيمة كالعرب وبين الدفاع عنها؟ هل يحب سادة إيران العرب أكثر مما يحب هؤلاء أنفسهم؟ وهل يضحون بأنفسهم من أجل أمة لا تريدهم أن يتدخلوا في أمورها أو يضحوا من أجلها؟
يقول العرب عن حالات كهذه: مجنون يحكي وعاقل يفهم! نحن، بصراحة، لسنا مجانين، وإخوتنا في إيران ليسوا، على ما يبدو، عقلاء بما يكفي كي يفهموا أن ما يفعلونه مكشوف ولا ينطلي على أحد عندنا، وأن من مصلحتهم الكف عنه!
إخوتنا الأعزاء في إيران: دعوا العرب لحالهم، ولا تتدخلوا في شؤونهم.
إذا كنتم تبحثون حقاً عن مكان تصلحون أحواله، فإنني أدلكم على مكان يحتاج بشدة إلى من يحل مشكلاته ويدافع عن شعبه هو: بلادكم، إيران المظلومة، التي تظاهرت أعداد هائلة من شعبها في تظاهرات دامت أشهراً، ليس دفاعاً عن جمهوريتكم، التي تريدون أن يقتدي شعب مصر بها ويصير جزءاً من حركتها، بل للتخلص منها وبالتالي منكم!
أنصحكم بإخلاص، أنا الذي يحب والله بلدكم وشعبكم أن لا تروا القشة في عين غيركم، وتنسوا الخشبة التي في أعينكم!
وأن تتركوا العرب لحالهم وتخطبوا ودهم، فهم لا يصلحون لأن يكونوا مطية لأحد، أقله لأنهم إخوة لكم، كما يقول التاريخ والواقع والدين!