صحيح أن مصر للمصريين، ولكنها مع ذلك ليست لهم وحدهم. فهي في خاطر كلٍ منا، وفي دمه. ما يصيب مصر هو مصيبة للعرب قاطبة. يكفي أنها تتربع على مركز التقاء الشرق العربي بالمغرب العربي، يكفي أنها علمت مئات الآلاف وتعلم فيها الآلاف من العرب..
.. يكفي أنها كانت في النصف الأول من القرن العشرين منارة الفكر العربي وقطب الثقافة العربية. وقبل ذلك كان الأزهر حارس الإسلام الوفي لمدة تزيد على ألف عام. منذ عام 1953 حتى عام 1960 لم أكن أرى في الفصل الدراسي إلا المدرسين الأوائل من مصر (باستثناء بعض مواد الدين واللغة العربية في سنوات الدراسة الإعدادية خاصة)، أما الأساتذة في كليات اللغة العربية والشريعة في الرياض ومكة فكان أغلبهم منذ تأسيسها من مصر. يمكن أن أضيف إلى ذلك الآلاف من السياح الذين يذهبون إلى مصر كل عام. ولا أريد أن استرسل في سرد ما يربطنا بمصر فهذا لا يكفيه صفحة أو صفحتين. وإنما أردت أن أشير إلى مكانة مصر وشعبها في أنفسنا، من أجل ذلك نرى أن كل ما يحدث في مصر يمسنا من قريب أو بعيد. كما أني لا أريد أن أتطرق إلى الثقل السياسي والإستراتيجي الذي تمثله مصر في هذه المنطقة من العالم، لأن شاهد ذلك ما أثارته الأحداث الأخيرة في مصر من اهتمام بالغ وقلق أيضا في الكثير من دول العالم. هذه المسيرات الشعبية الضخمة منذ يوم 25 يناير ربما لم تشهد لها مصر مثيلاً، لكنها ليست يتيمة في التاريخ المصري الحديث. ومن أمثلة ذلك الثورة الشعبية بقيادة سعد زغلول عام 1919م، كان هناك دائماَ التقاء شعبي على هدف واحد مشترك، لم يكن يقسم الجمهور انتماءات عرقية أو طائفية أو إيديولوجية - كما هي الحال في لبنان أو العراق أو السودان على سبيل المثال- بل كان الانتماء وطنياً ولهذا توحدت المشاعر التي أنضجت الانتفاضة ودفعتها للغليان، أحياناً تحت قيادة زعيم (كما كان الحال مع سعد زغلول) وأحيانا بدون قيادة واحدة. بل كان الخصم هو الذي يوحد الجميع. في مثل هذه المسيرات الشعبية التي يصطف فيها المتظاهرون ضد خصم مشترك يثار دائماً السؤال عما إذا كانت هذه مسيرات تلقائية أم تم تحريكها من الباطن بواسطة قوى منظمة؟ و ربما يوغل السؤال إلى أبعد من ذلك فيتحدث عن مؤامرة حاكتها جهة أو جهات تحت ستار كلمة أريد بها باطل. إن السؤال قد يكون وجيهاً لكنه عديم القيمة. إذ إن مثل هذه المسيرات الجماهيرية الثائرة هي ظاهرة اجتماعية تخضع لتسلسل ديناميكي. فإن هناك ظروفاً تتراكم عبر الزمن - مثل ظلم الحاكم أو الفقر والبطالة أو الشعور بالمهانة والاستعباد أو غير ذلك - لتنتج بيئة من الاستياء والتململ واليأس لكنها لا تولد رد فعل فوري، لأن الجميع (أو الأغلبية) يكابدون الظرف نفسه وكل منهم يرى أن يفعل مثل الآخرين، أي ينتظر أو يقبل بما يقبل به الآخرون. ثم ينهض طرف من الأطراف - إما لقساوة الظلم الواقع عليه أو استغلال الظرف السائد لتحقيق غرض محدد أو انتهاز فرصة سانحة مشجعة- ليدعو إلى تجمع حاشد يستقطب حشوداً أخرى حتى يتحول إلى مسيرة شعبية ضاغطة قد تنجح في فرض مطالبها أو ربما تقمع بقساوة. لكن هذه الحشود لا تتظاهر أو تحدث استجابة لغرض من أشعل شرارتها، بل لأنها تنفس بها عن مشاعرها المكبوتة أو الصامتة وتتوحد وجهتها نحو جهة الحاكم لأنها ترى فيه المسبب لآلامها. فلو لم تكن هذه الآلام والمشاعر موجودة و تبحث عن متنفس لها لما تحركت المسيرة، ولا أهمية هنا للمحرك الأول أو مشعل الشرارة، تماماً كما أنه لا أهمية لمستصغر الشرر بعد سريان النار في الهشيم.
ومن المحتمل أن ظروفاً مختلفة بعضها متراكم وبعضها مستجد مثل البطالة والفقر وخاصة في أوساط الطبقة الوسطى والمتعلمة ونشوء طبقة فاسدة من جهة وعيوب في الممارسة السياسية والحزبية والبرلمانية وخيبة أمل في الحكومة من حيث فاعليتها داخلياً وخارجياً من جهة أخرى قد تضافرت لتولد هذه البيئة القابلة للاشتعال. يقابل ذلك الوعي الذي تزداد مساحته مع انتشار وسائط المعلومات والاتصالات. وليس واضحاً بعد - حتى كتابة هذا المقال - إلى ماذا ستؤول هذه المظاهرات الشعبية. لكن الواضح أن الجميع أقروا بعدالة مطالبها بمن فيهم قادة البلد وحكامه، ولذلك فإن كل شيء يتوقف على مصداقية التجاوب مع هذه المطالب ومدى حيازتها لرضا المطالبين. فمهما قيل عن وجود مشاركين في المظاهرات لهم أجندات خاصة، فإن جموع المتظاهرين التي امتلأت بها ميادين القاهرة ومدن أخرى في مصر لم يكونوا منساقين وراء تيارات إيديولوجية أو حزبية، وفي مجتمع يوحده الانتماء الوطني مثل المجتمع المصري لا أمل في نجاح التيارات المتطرفة يميناً أو يساراً وربما تكون هذه الخصلة هي نقطة القوة في هذه الانتفاضة الشعبية وبشكل عام في أي مواجهة للظروف الداعية إلى الاضطراب. يمكن النظر إلى حوادث الإرهاب التي حصلت مؤخراً في مصر ضد الأقباط محاولة لتحويل المجتمع المصري إلى مجتمع طائفي لإضعافه وإشغاله بنفسه، وهذا أمر لا يتمناه محبٌ لمصر وأهلها.
بل نأمل أن يتمخض عن أي تغيير (وهو شعار ومطلب الانتفاضة) مجتمع مصري قوي متماسك تمثل اتجاهاته الفكرية والسياسية المختلفة منظمات دستورية وليست منظمات طائفية أو مذهبية أو عرقية. ما يدعو إلى العجب في سياق أحداث مصر هو اتفاق أطراف متناقضة في محاولة ركوب الموجة العارمة للتأثير عليها وتوجيهها إلى ما يوافق هواها فهذا الشيخ يوسف القرضاوي يوظف الدين في السياسة ويفتي من قطر بأن النزول إلى الشارع واجب شرعاَ والخامنئي من إيران يعلن أن هذه ثورة على نمط الثورة الإيرانية ستنتج نظاماً إسلامياَ. ومجلس الشيوخ الأمريكي لم يصدر قراراً ضد قيام إسرائيل بإزاحة الفلسطينيين من أراضيهم بل قراراَ يطلب سرعة انتقال السلطة في مصر. كل يغني على ليلاه، أما الشعب المصري فيغني لوطن حر مستقل الإرادة.