كنت أتابع على الهواء مباشرة أحداث الجمعة قبل الماضية التي استعاروا لها اسما من مشتقات كلمة (الغضب) وأكثر ماآلمني استغاثة المخرج المصري الشريف خالد يوسف وهو ينذر بكارثة ستحل بالمتحف
الوطني المملوء بحكايات السنين وشواهد الحضارات ويطلب من الجيش أن يتدخل لحمايته، ثم رأيت صورا فيما بعد وقد فتحت الخزائن وتناثرت المومياءات والتماثيل على الأرض وكل ذلك يشهد أننا في حرج أخلاقي وثقافي...
رأيت أيضا مصريا يهرب بسخان ماء وآخر تأبط قطعة أثاث لاتصلح للاستعمال الآدمي ولم أعرف إلى هذه اللحظة: ماذا يستفيد ذلك المصري من باب مخلع مكسور، فأي غنيمة تحملها الأكتاف إن كانت المسروقات من جسدك وروحك، وأي مسوغ لسارق يسرق وطنه ويستبيح إرثه وتراثه أمام كاميرات التلفزة العالمية مما يشهد على أن ذلك المواطن السارق هو الفساد الأكبر وهو المعوق الأكثر تحطيما لطموحات الإصلاح في أي نظام.
في بغداد والقاهرة وهما أعرق عاصمتين على ظهر هذا الكوكب كان الدرس الأخلاقي قاسيا للإنسانية جمعاء التي رأت أحشاءها تتبعثر في الشوارع وتحطم على الرخام بحجة الفقر والاستبداد، وهذان السببان لايسوغان هذه الوحشية تجاه جمادات وهياكل عظمية لم تشارك في مظاهر الحياة ولم تعط المستبد والفاسد شرعية ذات يوم، وكانت مهمتها الكبرى المراقبة والبكاء بصمت يتجاوز كل ما كتب حتى الآن عن سايكولوجيا المقهورين والذات الجريحة التي تفهمها أروقة الاستخبارات العالمية، بالأمس كان درس العراق في مدرسة الفوضى غير الخلاقة صعبا ولم تستوعبه الجماهير الغوغائية، ولم تدرك ألغازه الدهماء المتوحشة التي ما أن وجدت فرصة للانفلات حتى طارت في الشوارع مسعورة لعلها تظفر بشيء من الوطن المسروق أصلا ليتأكد لنا جميعا أن الهزيمة الحقيقية ليست في تغلب طرف على طرف لأن هذا من سنن الله في كونه ولكن الكارثة الوطنية التي لن تقوم لها قائمة العبث بكنوز لاتقدر بثمن، وحرق مخطوطات ذات قيمة حضارية، وكفوف الدنيا الألف تجأر إلى الله بالشكوى وأصابعها العشر تشهد أننا فشلنا في تنمية روح المواطنة والتمدن عندما يكون الهدف الأسمى للإنسان السارق الحصول على هيكل عظمي من كلية للعلوم في جامعة بغداد أو الموصل أو معلبات حيوانية من تموينات منهوبة في وطن يتجزأ بشكل عنيف ويقتسمه أبناؤه أمام العالم ولو كان الثمن في هذه الغنائم (جنط حديد مطعوج لا أدري ما الفائدة منه وقد وضعه ذلك العراقي على متنه وفر به هاربا أمام الكاميرات)، بئس الغنيمة وبئس الغانم حينما تشهد الليالي والأيام أن الحرب خاسرة بكل تفاصيلها لأنها لم تقف عند حدود الهزيمة العسكرية وتغيير الأنظمة المستبدة بل تجاوزتها إلى هزيمة ثقافية لم يشهدها التاريخ إلا على يد من هم أمثال هولاكو عندما أغرق مخطوطات مكتبة دار الحكمة في الرافدين ولكن هذه المرة نحن الذين ألقينا مخطوطاتنا بأيدينا في المزابل والقاذورات وكسرنا كل مايشهد على حضاراتنا الإنسانية في لحظة تعد من لحظات الخروج عن الوعي حينما نسرق فيها أنفسنا ونغنم حضارتنا ونسلب تاريخنا، وحولنا هذه التراجيديا الى كوميديا هستيرية سوداء لنضحك في نهايات المشاهد على أنفسنا بعد أن أضحكنا الجماهير الأحياء والأموات في الدنيا كلها على سلوكنا غير الحضاري..
نعم المخرج الشريف خالد يوسف وحده كان على مستوى ذلك الأسباني الوطني الذي سكتت كل البنادق في الحرب الأسبانية إلا بندقية واحدة في أحد الخنادق وكانت بندقيته التي توجه نيرانها في كل الجهات فأمر المسؤول جنوده أن يقبضوا على هذا الجندي ولا يقتلوه وبعد انتهاء الرصاص من جعبته قبضوا عليه وأحضروه إلى ذلك المسؤول الذي حياه لوطنيته وشجاعته وسأله ما الذي دعاك إلى هذه المقاومة منفرداً وقد استسلم غيرك فأخرج الجندي ورقة من جيبه قد بللها العرق وزعفرها التراب المقدس ومدها للضابط قائلاً: إني أقاتل من أجل هذه وما كانت هذه إلا قصيدة لوركا الشاعر الإسباني العظيم، ومن سكت عن هذا النداء الخالد من النخب والأحزاب التي فكرت بذاتية صغيرة ومصلحة خاصة وقضية لاتتجاوز أرنبة الأنف وانتقام لثأر قديم فهيجوا الدهماء بخطبهم الثورية ولغتهم الحادة في قنوات التلفاز وكان الشارع بحاجة إلى عقلاء يضبطون المسار ويحاورون النظام لفرض مزيد من الإصلاحات دون فقد المكتسبات والمنجزات وبخاصة أن النظام يحتضر والفوضى تعم البلاد فهو أشبه ببودلير الفرنسي الذي شوهد في باريس يتأبط بندقية لأول مرة في حياته ولا يجيد استخدامها فظن الجيران أنه يشارك في حرب لمصلحة بلاده لكنه سرعان ما أثار دهشة الجميع عندما قال إنها فرصة لقتل الجنرال الذي تزوج أمه الأرملة وحرمه من حنانها.
لم يتوقع أحد أن يجرؤ المواطن المصري الأكثر تمدنا في عالمنا العربي على سرقة المتحف الوطني، ولم يتوقع أحد أن يراه يحرق تمويناته ويسرق مستشفياته ومراكز الشرطة وأن ينهب ويعبث ويحطم، وهؤلاء بكل أسف لم تمطرهم السماء مع الأحداث ولم تجلبهم سفن الارتزاق من أقاصي الدنيا ،ولم تنبتهم جمعة الغضب من الصخور والجدران مما يؤكد أننا في هذا الجزء من العالم نستحق إلى أن نجلس في طوابير ونتعلم من جديد مبادئ الوطنية وقيم التمدن ومعنى الفساد الذي ننادي بالثورة عليه وفهم الدروس التربوية والسلوكية في مدرسة الحضارات من جديد على أسس ثابتة تستعصي على عوامل التعرية وتيارات رياح الغضب الهوجاء...
قبح الله ثورة تبدأ بنهب مستشفى سرطان الأطفال ( 57357 ) الذي شحذته مصر من الرجال والمؤسسات والمنظمات والدول جنيها جنيها وسريرا سريرا وغطاء غطاء، ذلك المشروع الذي بدأت فكرته عندما توفّي 13 طفلًا من أصل 15 في يوم واحد في معهد الأورام نتيجة عجز الإمكانيات، فذهب الطبيب شريف أبو النجا للشيخ الشعراوي- رحمه الله رحمة واسعة- وقص عليه قصة الأطفال فقال له الشيخ سأعطيك مائة وخمسين جنيها مدى الحياة وسيلتزم بها أولادي بعد مماتي للإنفاق على الأطفال المرضى. وقبح الله ثوارا وبلطجية لايعرفون أن المتحف هو الأقنوم الأول في نشوء أي دولة بالتعريف الكلاسيكي، وليتهم عرفوا سر مصر العظيم وهم يبعثرون مقتنيات المتحف المصري ويفتحون خزائنه وقد جمعته أيدي شرفاء مصر من سنين قطعة قطعة وورقة ورقة من مختلف بلدان العالم التي سرقت آثار الفراعنة وخطفت آثار العصر المملوكي وصادرت آثار العصر العثماني ،ثم يأتي معتوه في لحظات بحجة الثورة والفوضى ليبدد جهودا لا تقاس بمعيار البشر ومنجزات شعب بأكمله وإرادة تعد ضربا من المستحيل، والعقلاء في العالم وحدهم يدركون أن ذلك المتحف الوطني في مصر هو الثروة الوطنية والقومية والإنسانية لحضارات العالم قاطبة، والأكبر معنويا من تعريف بقية المتاحف العشرين النادرة بمؤسسة تقام بشكل دائم بغرض الحفظ والدراسة بمختلف الوسائل وعلى الأخص بعرض مجموعات فنية أو تاريخية أو علمية أو تكنولوجية على الجمهور من أجل تحقيق التعلم والمتعة والسرور والمتحف، إنه عمق التاريخ وبعد المستقبل بعد أن تكثفت أبخرته من عصوره الجليدية والأوردوفيشية حتى تقطرت في حجر جيري أو هيكل لكائن منقرض أو إناء فريد الطراز أو مومياء محنطة...
لماذا أيها السادة أصبح غزو المتاحف ونهب هياكلها العظمية وحرق مخطوطاتها في بلاد العرب أسلوباً متكرراً في كل انتفاضة شعبية على نظامها ؟
والله من وراء القصد..