|
عمر الأسعد :
شخوصه دائماً حاضرة، فمنذ تخرجه من كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 2004، والفنان التشكيلي السوري شاهين عبد الله يعمل مع شخوصه، مرةً يغذيها بأملها ومرةً بالغربة والانكسار، ليعرض من خلالها إلى حالات اغترابٍ إنسانية في عالمٍ بات فيه الجميع يعيشون غربةً، مع ازدحامه بالتكنولوجيا والاستهلاك والسوق المفتوحة بلا حدود.
ولم تكن دمشق كما تخيل ذاك الشاب القادم من مدينة الحسكة شمال شرقي سوريا أبعد المدن السورية عن العاصمة، ففاجأته أزماته المادية والنفسية وسط المدينة المزدحمة، لينمو بداخله أول شعورٍ بالغربة، كذلك داخل أروقة الكلية وهنا يقول: «في الكلية كان هناك بعض المدرسين الذين يتركون العامل الشخصي هو الذي يحكم أعمال طلابهم وهذا ظلم الكثيرين من الطلاب.»
لكن أزماته هذه دفعته للبحث دائماً عن العمل والجديد، هكذا اندفع للعمل في المونتاج والتحريك وغيرها من الأعمال التي تتصل بالفنون الجميلة، خلال هذه المرحلة بدأ عشقه للشكل البشري يتبلور ليكون مشروعه المستقبلي مستفيداً من خبرته في المجالات التي عمل بها:» أحببت الشكل البشري لأني كنت أراه غاية في التعقيد من خلال ما بداخله من عواطف وأحاسيس، فهو بالنسبة لي دائم الحركة بينما أشعر أن غيره من الأشكال ثابتة وقليلة التعقيد إذا أجرينا مقارنة بينها وبين الشكل البشري.»
يتخلل أعمال شاهين عبد الله مزج كبير بين عدة فنون بصرية، فاللوحة تعتمد على التجهيز الفراغي وحتى الفيديو أحياناً، وهي تقنيات جديدة على مسار الحركة التشكيلية في سوريا، بدأ بإدخالها مجموعة من الفنانين الشباب في محاولةٍ منهم للاستفادة من تقنيات هذا العصر، أو لإثبات هويةٍ مختلفة عن الجيل الذي سبقهم في المحترف التشكيلي السوري، وهذا بالفعل مما يثير جدلاً بين كثير من المهتمين والنقاد والفنانين التشكيليين على الساحة السورية:» بصراحة هذا جزء هام من التجريب لدي، وأنا أرى أن الفن إن لم يكن تجريبياً فهو ليس فناً، كل فنان يتواجد في مرسمه أو مشغله كي يجرب ومن خلال تجريبه عليه أن يصل.»
المتتبع للمنجز التشكيلي الذي قدمه عبد الله خلال السنوات الماضية، سواء في معارضه في دمشق أو تلك التي أقامها في عواصم أوربية مثل لندن وأمستردام، يلاحظ نوعاً من العبثية، وخاصة من خلال طرحه لمستويات مختلفة بصرياً في التواصل مع اللوحة، كأن يقطعها إلى مربعات تتدافع وتتراكب ثم تنهار أمام المتلقي، وهنا يقول:» هناك عبثية بالفعل من خلال ما أقدمه من أعمال لكني أراها عبثية مبررة لأنها مقصودة، فنحن بحاجة لإقامة علاقة جديدة بصرياً مع اللوحة ليس من خلال السطح الاعتيادي فقط إنما الخروج من هذا الإطار إلى شكل جديد من أشكال التلقي للعمل الفني.»
يشغل البورتريه جزءاً هاماً من أعمال عبد الله، وفيما ينجزه من بورتريهات نكهةٌ خاصة، ربما لا يجدها المتتبع لدى كثيرين غيره، فهو يستحضر وجوهاً من مناطق جغرافية، وأعراقا بعيدة عن المنطقة العربية في أغلب الأحيان كتلك اللوحة التي أنجزها لطفلٍ أسود البشرة في مجموعته الأخيرة، كذلك يدخل القطع في إنجازه للبورتريه ليقدم من خلاله أجزاءً محددة من الوجه ويركز عليها بما فيها من تفاصيل، ليغدو هذا الأسلوب جزءاً هاماً من كيان اللوحة وعلاقتها بالفراغ المحيط، وهو يرى أن استحضاره لوجوه من حضارات ومناطق مختلفة، تتحدث عن الإنسان وتشخص همه ومعاناته دائماً، لذلك ربما تختلط بعض الملامح في لوحاته التي يرسمها، لكن هذا لا ينفي بالطبع أنها ابنة هذه المنطقة، فعندما كان يعرض في أوروبا كانت الملاحظة الأولى التي أطلقها الناس هناك هي تعليقهم على مجموعة من البورتريهات التي تشبه أبناء المنطقة وتأخذ ملامحهم، وهذا ليس غريباً وقد يخرج على سطح لوحتي بشكل لا شعوري.»
خلال الفترة الماضية قدم شاهين عبد الله أعماله الفنية باستخدام وسائط متعددة: منها التصوير، والفيديو، والتجهيز، وغيرها أيضاً من التقنيات التي استخدمها في اللوحة ومن ضمنها الكولاج أو أثر الكولاج وهي التقنية الجديدة التي بدأت بالظهور ضمن أعماله أيضاً، وخاصة أثر أوراق الجرائد التي يراها تعبر عن داخل الإنسان بالشكل الأمثل.
المجموعة الأخيرة من أعمال شاهين عبد الله، حملت عنوان غرباء، وفيها قدم شخوصه الغريبة في عالمها، الذي بات أكثر وحشةً وأكثر انغلاقاً على ذاته رغم كل وسائل الاتصال وأصوات الانفتاح، هكذا غدا كل عمل من أعماله يحمل شخصاً غريباً عن كل ما يدور حوله، في زمن يشيع فيه الاستهلاك وحتى العواطف الافتراضية عبر الإنترنت، وهنا يضيف:» نحن غرباء لأننا نعيش بعيداً عن مشاعرنا أغلب الوقت، ولذلك أسقطت فكرة الغربة على منتج فني، وهي غربة داخلية يعيشها الفرد اليوم حتى بين أهله، أو عندما يكون في بلده.»