في يوم الثلاثاء الموافق 28-2-1432هـ جاء أجل أخي المحتوم وقدره المختوم...
أخي وشقيقي، حبيبي وصديقي «عبدالرحمن بن علي المحسن» أبو سلمان.. ماكنت أصدق أنني سأكتب عن وفاته بهذه السرعة، وفي هذا الوقت فليس هو شيخ كبير وهنت منه القوى بل هو رجل عوده قد استوى وبلغ أشدّه وكمل, نعم بلغ من العمر خمساً وأربعين، سنة وليس هو مريض طريح فراش ننتظر وفاته صباح مساء, بل هو صحيح معافى سليم الحواس قوي الساعد يذهب ويغدو يمشي ويعدو.
نعم لم أصدق أن أخي سيذهب عنا سريعا بغمضة عين, ويذهب إلى أين؟ إلى دار أخرى دار المستقر، دارٌ الناس كلهم إليها ذاهبون ?فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ?
كان أملي بعيدا وأني على طريق لا أميل عنه ولا أحيد, فأفقت على هول الصدمة صدمة وأي صدمة, صدمة جاءت بها مراكب الموت وحملتها غرف الأحزان, وهل تركت تلك المراكب وتلك الغرف أحدا, لم تترك صغيرا لصغره ولا شابا لشبابه ولا رجلا لأهله وولده, أتدرون ماتلكم المراكب وماهي تلك الغرف؟؟ إنها مراكب السيارات التي لم تترك بيتا إلا أدخلت عليه الحزن وألبست أهله الهم والغم وفرقت جماعته وشتت بضاعته, إنها مراكب الأحزان, حاملة الأكفان, مقرحة الأجفان, أيها الموت أي قوة فيك؟ وأي سلاح تستخدمه؟ كم جبار قصمته؟ وكم من ملك بددته؟ كم من زوجة رملتها؟ وكم من فتاة فجعتها؟ كم من شاب صرعته؟ وكم من رجل فرعته, وكم من كهل جرعته؟ كم من وليد يتمته, وكم من صغير لطمته؟ وكم من عائلة نثرت عقدها؟ وكم من أسرة عجّلت فقدها؟؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله إنه الموت اسمه مرعب يرعب البلاد والأجناد ويقلع الأطناب والأوتاد هذا هو الموت فهل منا من يجهله؟ لا بل كلنا يعرفه الصغير والكبير الأمير والوزير لا يختلف عليه اثنان ولايحتاج لإثباته دليل ولا برهان, أدلته في الوجوه مبثوثة؛ فالعيون شواهد حمرتها فاضحة وبالدموع ناضحة, آياته في الآفاق مبعوثة, فهل مررت يوما بروضة غنّاء يعجبك منظر أزهارها ويلذّك صوت أطيارها ثم بعد هنيهة عدت إليها فإذا هي يابسة هشيم قد أهلكها الموت ?كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ?.
الموت الذي منه نفر, وإذا جاءنا للوجوه نخر تلك الوجوه ووقعت في قبضة الموت, ?قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ? «فإنه ملاقيكم» وصف دقيق يلجئك إلى كل مضيق ويسد عليك كل طريق, إنه الموت كلنا منه يهرب فنحتمي من ملذ المأكول لأجله ونطلب أسباب الصحة لأجله, كلنا وجل هارب, تنظر خلفك خشية أن يدركك فتظن أنك بأفعالك سبقته ثم ماتلبث وأنت مفحم تلهث أن ترى شبحا أمامك, ياإلهي ماهذا؟ إنه الموت. تحدثك نفسك أن لو لم أركب السيارة لما كان وكان, إن نفسك تريد أن توردك الهلكة هلكة الدين لاهلكة الدنيا.
?أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ? حقيقة قد تغيب عن الأذهان يظهرها الواقع والحدثان. هو الموت يدخل على البيوت بلا استئذان فيملؤها عبرة وأحزانا فلا ترى إلا باكيا مفزعا ولا تسمع إلا خنينا موجعا.
حقيقة يجب أن نعقلها وأن ندرك الحكم التي من أجلها خلقه الله ?الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا? فهل من متدبر لكلام ربه وهل من واعٍ ناصحٍ لنفسه يحسن عمله. إن أهل الإسلام لايرهبون الموت لأنه مغيب الأحبة وهادم اللذات لا بل يرهبونه لعلمهم أنه مفتاح الحياة وبداية حقيقتها فلأجلها يعملون ومن دنياهم يتزودون لكنهم يخافون سوء المنقلب وعاقبة المصير ورد الأعمال إذ الصحف تطير, أما إذا قبلت أعمالهم فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون بل هم في تلك الحياة ينعمون, حياة لانصب فيها ولاتعب، حياة فيها مايلذ الأعين، فكم فيها من القصور والدور بل موضع السوط في تلك الحياة خير من الدنيا ومافيها, فيالها من حياة تستحق أن يشمر لها المشمرون وأن يجتهد لها المجتهدون وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
ذلك الموت الذي قضاه الله وقدّره على كل حي, فأي فجيعة يحدثها وأي مصيبة يبدعها, فلاإله إلا الله كم للفراق من لوعة وكم للبعد من وحشة ماكنت أتخيل عظم المصيبة حتى واريناه في قبره في ليلة ليلاء, حينما أتذكره ويمر شريطه أمامي أصاب بخفقان يتبعه دوران فلا تلوموني وأنتم لا تلامون، فإنه أخي وشقيقي ورفيق دربي في مشوار الحياة، به كنا نأنس وبحضوره كنا نسعد فكان أخذه مصيبة وفقده فجيعة لا نقول ذلك جزعا وتسخطا حاشا وكلا بل نقول ذلك إخبارا لا شكوى ولا نقول إلا كما قال رسولنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه ابراهيم وكان عمره ستة عشر شهرا-طفلا صغيرا- «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا مايرضي ربنا وإنا على فراقك يا أبا سلمان لمحزونون» فاللهم ارحمه برحمتك والطف به بلطفك، ثم إن أهل الإيمان عزاؤهم بإلههم وخالقهم, علموا الأمر ففهموه ونظروا الطريق فلزموه رجاء ماوعدوه ?وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ? نعم إنهم يريدون أن يذكرهم الله ويثني عليهم لصبرهم وتحقيق مقام التعبد لله بالصبر على أقداره, ويريدون تلك الرحمة التي هي عنوان السعادة في الدنيا والآخرة ويريدون تلك الهداية التي بها يعتصمون من الضلال والغواية في الدنيا والآخره, كما أن أهل الإيمان يطمعون في جنة عرضها السموات والأرض، ومن أعظم أسباب دخولها الصبر على المصائب, وقد قال تعالى في الحديث القدسي «مالعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة»رواه البخاري وقال أيضا «ابن آدم إن صبرت عند الصدمة الأولى لم أرضَ لك ثوابا دون الجنة»رواه ابن ماجه وسنده صحيح, فوالله لولا هذا العزاء وهذه التسلية لكان لنا مع أخي أبي سلمان شأن آخر ثم عزاء ثالث إننا موقنون أن هذا هو قدر الله وأمره واختياره ?وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ? فلا إله إلا الله قد رضينا إلهنا بك ربًا وخالقًا سبحانك لاتسأل عمّا تفعل وهم يسألون, وعزاء رابع أننا مستيقنون أنّا وإياه مجتمعون في دار الحق وجنة الخلد, فكلها أيام قلائل فهذه الدار ليست بدار قرار وإنما هي طريق ومعبر للآخرة والجميع لها مسافرون وهناك يحطون رحلهم ويستقرون وحينئذ يجتمع المسلم بحبيبه وقريبه في نعيم دائم وحياة أبدية، قال بعضهم وقد مات ابن له «وهون ما ألقى من الوجد أنني أجاوره في داره اليوم أو غدا» فلولا تسلية النفس وتعليلها بقرب اللقاء، وقبل ذلك تثبيت المولى جل وعلا وإنزال السكينة على القلوب لكنا في حال أخرى فالحياة حقيقية هناك.
فأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل أخي ممن يرثون الفردوس الأعلى وأن يقيه عذاب القبر وعذاب النار فلقد عرفت أخي مؤمنا بالله موحدا مقيما للصلاة متعبدا بعيدا عن الشرك له مفندا ليست له صبوة الشباب ولا الشيوخ، لايعرف طريقا إلا طريق المسجد والمدرسة وطريق مكة والمدينة، فاللهم الطف به يارحمان، عرفته عفيفا متعففا ذا عيال وتلك من خصال أهل الجنة, عرفته هادئ الطبع بشوشا ذا خلق, وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة قال «تقوى الله وحسن الخلق» رواه الترمذي وهو صحيح. وقد فسر عبدالله بن المبارك حسن الخلق بطلاقة الوجه وبذل المعروف وكف الأذى. عرفته بارّا بأمه وقد ماتت وهي راضية عنه وهاهو يلحق بها لايعلم ماخبأ له القدر فاللهم ارحمهما برحمتك. ومن البشائر التي نحسبها كونه مات بحادث وقد سئل شيخنا الإمام العلامة عبدالعزيز ابن باز رحمه الله عن من يموت بحادث سيارة فقال هم شهداء.
ثم تلك الأعداد الغفيرة التي جاءت للصلاة عليه حيث امتلأ المسجد مع برودة الجو وكون الصلاة صلاة العشاء. مع ما لاحظناه من ابتسامة مشرقة على وجهه المشرق فاللهم تقبله عندك وضيفه رحمتك ومتعه بشبابه في جنتك وأنزل على قلوبنا الصبر والإعانة وأجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها برحمتك يا أرحم الراحمين..
الدكتور صالح بن علي المحسن -جامعة القصيم - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية