إن خطر التعرّض للأمطار الغزيرة وما ينجم عنها من فيضانات يبقى قائماً في أي منطقة على وجه الأرض، إلا أن درجة الخطر تتباين وفقاً لمستوى البنية التحتية المتوفّرة في تلك المنطقة، وكذلك لمدى فعالية تدخل الجهات المعنيّة بإدارة الكوارث.
إن درجة الخطر ستكون بسيطة جداً في حالة تجمّع المياه بكميّات كبيرة في الشوارع بعد هطول الأمطار ثم تلاشيها في وقت وجيز نتيجة شبكة تصريف جيّدة، ولكن إذا ما فشلت شبكة تصريف الأمطار في استيعاب كميّات المياه الحائرة فإنه من الضروري تدخل الجهات المسؤولة للتعامل معها وبالتالي ترتفع درجة الخطر إلى المتوسطة، أما إذا حدثت أزمة وأدت إلى تعطيل الكثير من المصالح لفترات طويلة وتسببت في إعاقة انتقال الأشخاص من مكان إلى آخر، هنا يدخل الخطر مرحلته القصوى التي تنذر بعواقب وخيمة اقتصادية وصحيّة واجتماعية ... إلخ.
إن من المفترض ربط الخسائر البشرية والمادية الناجمة عن الفيضانات بدرجة الخطر وليس بكميّة هطول الأمطار، لأنه بتوفّر البنية التحتية السليمة ستتم السيطرة على كميّات المياه المتدفّقة ومن ثمّ تنخفض درجة الخطورة إلى البسيطة، ولعل الفيضانات التي وقعت عام 1431هـ في الباكستان، خير مثال على ذلك، حينما تجاوزت الخسائر البشرية 1600 شخص مع تشريد ستة ملايين انسان وتدمير 650 ألف منزل، بينما شهدت مقاطعة انجلترا البريطانية قبل ذلك بسبعة أشهر، هطول كميّات كبيرة من الأمطار تفوق التي شهدتها الباكستان بل وسجّلت رقماً قياسياً عند 314 ملم في 24 ساعة، ولم يتم تسجيل سوى حالة وفاة واحدة لأحد أفراد الشرطة عندما انهار به أحد الجسور. لقد كان لتوفّر البنية التحتية اللازمة من شبكات تصريف للأمطار وسدود وحماية لمجاري الأودية الدور المحوري في حماية الأرواح والممتلكات بعد مشيئة الله سبحانه وتعالى، وعليه فإن من الخطأ نسبة الخطر إلى كميّة هطول الأمطار والصحيح نسبته إلى ضعف البنية التحتية.
وحتى يستطيع القارئ الكريم تصوّر أهميّة الدور الذي تقوم به شبكات تصريف الأمطار، فسوف نفترض وجود قطعة أرض مربعة الشكل وطول كل ضلع فيها 100 متر فقط، فعند تفريغ 100 صهريج سعة 12 مترا مكعبا على هذه الأرض دفعة واحدة فإن ارتفاع منسوب المياه داخلها سيصل إلى 12 سنتيمترا فقط! وهذا يعادل هطول المطر بكميّة 120 ملم، وتصريف هذه الكميّة لا يتطلّب أكثر من عبّارة تصريف واحدة بقطر 30 سنتيمترا لتفريغ المياه من هذه الأرض بالكامل خلال ساعة واحدة! وبالتالي نستطيع الحكم على أن هطول الأمطار بمعدّل 120 ملم يعتبر من المخاطر البسيطة إذا ما توفّرت شبكة التصريف المناسبة. وبالرجوع إلى ما حصل في مدينة جدة يوم الأربعاء الموافق 22/2/1432هـ فإن عدم توفّر شبكات التصريف إضافة إلى انحسار المياه من الأماكن المرتفعة إلى المنخفضة داخل المدينة، وكذلك انتقال المياه من خارج المدينة إلى داخلها أدى إلى رفع منسوب المياه في بعض الأحياء إلى ما يزيد عن المتر ونصف، ولتبلغ درجة الخطر المرتبة الثالثة مسببة أزمة حقيقية تمثّلت في وقوع خسائر بشرية ومادية ومحاصرة لبعض الأحياء وتعطيل للكثير من المصالح، وأمام هذا الواقع، فإن المعوّل عليه هو تدخّل الجهات المعنية بإدارة الكوارث ممثلة في «لجنة الدفاع المدني المحليّة بالمنطقة» المشكّلة من عدة جهات حكومية للاضطلاع بدورها في المواجهة وتنظيم استجابة كافة الجهات، سواءً كانت حكومية أو أهلية، وكذلك المتطوعون.
وحتى تكون خطة الاستجابة فعّالة وسريعة، فإن من الضروري توفّر «خريطة مواقع الخطر» التي توضّح المواقع غير المخدومة بشبكات تصريف مياه الأمطار أو المواقع التي تكون فيها الشبكات خاضعة للصيانة، وكذلك توضّح الأحياء المنخفضة والمهددة أكثر من غيرها بتجمّعات المياه، وأيضاً الأحياء السكنية المقامة حول مجاري السيول. إن بإمكان المختصين تقدير كميّات المياه المتدفّقة قياساً بكميّة الأمطار المتوقّعة، ورسم مخطط يوضّح حركة المياه المحتملة، ومن ثمّ تحديد المناطق الأكثر عرضة للخطر. إن «خريطة مواقع الخطر» هي نوع من التنبؤ بوقوع كارثة، غير أن المقصود بهذه العملية ليس التنبؤ بساعة حدوثها وإنما بنتائجها. لقد استحال علينا تحديد موعد الأمطار الأخيرة التي هطلت على مدينة جدة، غير أنه لم يكن من المستحيل تحليل المخاطر وتحديد المواقع التي تتجمع فيها المياه حالياً وبمنتهى الدقة قبل وقوع الكارثة، وهذا هو المقصود ب»خريطة مواقع الخطر» والتي بموجبها يمكن تحديد أن الحي (أ) سيغرق عند كميّة أمطار أقل من 120 ملم بينما سيغرق الحي (ب) إذا تجاوزت كميّة الأمطار هذا المستوى، وبالتالي فإن الحي الأول يستحق الأولوية لدى الأمانة لخدمته بمشروع تصريف مياه الأمطار مستقبلاً وكذلك يستحق الأولوية لدى الدفاع المدني خلال الساعات الأولى لهطول الأمطار بغزارة، بدلاً من الاعتماد على البلاغات الواردة لغرف العمليات والتي تجاوزت 10,000 بلاغ في الساعات الأولى لكارثة جدة الأخيرة، والتي يستحيل تلبيتها جميعاً أو وضع أولوية للاستجابة لها على أساس درجة الهلع والصراخ الذي يبديه المتّصلون.
إن الساعات الأولى لوقوع أي كارثة تكون مربكة جداً عندما تتلقى غرف عمليات الدفاع المدني آلاف الاتصالات من مختلف أجزاء المدينة المنكوبة، وجميعها تطالب بإلحاح شديد بالتدخل رغم تباين مستوى الخطورة بشكل كبير فيما بينها، وبالتالي فمن الواجب بناء أولوية التدخل وفقاً ل»خريطة مواقع الخطر» لكونها الأدق والأصدق في تحديد المواقع الأكثر احتياجاً للمساعدة، كما أنها ستكون مفيدة في تحديد مواقع الإيواء للمتضررين بجوار مناطقهم السكنية، وبالتالي يسهل نقلهم أثناء الكارثة وإعادتهم بعد زوالها، هذا بالنسبة للدفاع المدني، أما بالنسبة للجهات الأخرى، فإن خريطة المخاطر مهمّة أيضاً لعمل هيئة الهلال الأحمر السعودي، وكذلك للإدارة العامة للمرور لتعديل الخطّة المرورية وفقاً لما تُظهره الخريطة من شوارع وأنفاق ستغلق بسبب المياه. وباختصار ينبغي أن تكون «خريطة مواقع الخطر» معلنة ومتاحة لكافة الجهات العامة والخاصة وكذلك للمواطنين بشكل عام، وهذا الإجراء سيضع الجميع أمام مسؤولياتهم.