الرياض - خاص بـ(الجزيرة)
يعاني المجتمع السعودي في السنوات القليلة الماضية ارتفاعاً متزايداً في أسعار كثير من المنتجات الخدمية، وفي مقدمتها السلع الغذائية التي يحتاجها كل منزل.. واختلفت الآراء حول هذا الزيادة المتتالية في الأسعار بين من أرجعها إلى جشع التجار وأصحاب رؤوس الأموال، ومنهم من أرجعها إلى انعدام الرقابة على الأسواق حتى أصبح كل صاحب منشأة، أو محلات تجارية يرفع الأسعار وفقاً لرؤيته ورغبته في زيادة أرباحه دون حسيب أو رقيب، مع انعدام أو قلة الخوف من الله.. ومنهم من زعم أن ارتفاع أسعار السلع والمواد الاستهلاكية والخدمية راجع إلى ارتفاع موادها الأولية، وبين هذا الرأي وذاك، منهم من أرجع ذلك إلى البعد عن الله والتغير السلبي الذي طرأ على المجتمع.
وهنا نتساءل عما إذا كان هناك ارتباط بين مشكلة التضخم وارتفاع الأسعار والقرب والبعد من الله، أم أن هناك علاقة شرعية في المصائب التي تحدث في آخر الزمان كما ورد ذلك في العديد من الأحاديث النبوية.. مجموعة من الأساتذة المتخصصين في الفقه وأصوله تحدثوا ل»الجزيرة».. وفيما يلي نص أحاديثهم.
غلاء الأسعار
بداية يؤكد الدكتور خالد بن عبد الله المزيني عضو هيئة التدريس بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن أن الارتفاع النمطي للأسعار بما يخرج بها عن الحد المعقول هو حالة مرضية تصيب اقتصادات الأمم، بخلاف ما يسمى بالارتفاع والتضخم الزاحف فهو طبيعي في الأمم، والارتفاع الفاحش أو الجامح هو حالة قديمة مرت بكثير من الدول عبر التاريخ، وقد سجل المؤرخون العديد من حالات الارتفاع الجامح للأسعار وشح السلع والغلات في الأمصار الكبرى في الحواضر القديمة، كبغداد ودمشق ومصر، وقد تتبع العلامة المقريزي (ت 845هـ) أخبار الغلاء والمجاعات التي مرت على أرض مصر منذ فجر التاريخ إلى عصره، وذلك في كتابه «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، وذكر قصصاً فظيعة لا تكاد تصدق، وقد ذكر ربنا تعالى في كتابه الكريم قصة ابتلاء بني إسرائيل بالجوع والغلاء، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}.
وفي القرآن الكريم كذلك إشارات إلى أن لهذه الظواهر الاقتصادية السيئة أسباباً مباشرة وأخرى غير مباشرة، فأما الأسباب المباشرة فهي شح الموارد واحتكار التجار والمكوس والضرائب الباهظة ونحو ذلك. وأما الأسباب غير المباشرة فهي البعد عن الله والغفلة عن طاعته والتمادي في الذنوب، وذلك أن آية الأعراف الآنفة الذكر جاءت في سياق ابتلاء فرعون وقومه حين حصل منهم تكذيبهم لموسى عليه السلام حين أظهره الله على السحرة، ولهذا ختم الآية السابقة بالدعوة إلى التذكر والاعتبار، فهذا كما يقول المفسرون تأكيد على أن كل نعمة معرضة لأن تسلب إذا لم تشكر، وقد قيل: النعم إذا شكرت قرت وإذا كفرت فرت.
ومشكلة الغلاء والتضخم أنه ينهك المواطن من الطبقة الفقيرة والوسطى في الدولة، إذ هو يؤدي بشكل مباشر إلى ارتفاع أثمان السلع، ومن ثم تهبط أجور العمال بفعل انخفاض القوة الشرائية للنقود، والعادة أن ارتفاع الأجور بطيء جداً، بخلاف الأسعار التي سرعان ما ترتفع لأدنى سبب، وربما ارتفعت الأجور تدريجياً مع الزمن، لكن بعد أن ينهك جحيم أسعار السلع الأساسية جيوب صغار العاملين وذوي الدخل المحدود، وهذا كله له آثار وخيمة على التماسك الاجتماعي والأسري، وكثيراً ما يكون سبباً في اختلال الأمن من قبل الطبقات الفقيرة بدافع البحث عن القوت اليومي.
وقد سلك المسلمون على مر التاريخ مسالك شتى في معالجة غلاء الأسعار وتناقص الغلات، ومنها: الضبط الإداري، فقد كان المحتسب في الدولة الإسلامية يقوم على تفقد الأسعار ومنع التجار من المغالاة في السلع، وذكر المقريزي -وقد كان هو محتسباً في القاهرة في العصر المملوكي- أن القائد جوهر قام -حين وقع الغلاء بالقاهرة- بالقبض على الطحانين الذين رفعوا أسعار القمح وضربهم وأمر أن يطاف بهم، وجمع تجار الغلات وعيّن عليهم محتسباً يراقب الأسعار ويمنع المبالغة في السعر، وذكر أنه في أيام المستنصر عيّن على أرباب كل صنعة عريفاً يتولى أمرهم، وهو يشبه ما يسمى اليوم نقباء المهنيين والتجار في بعض الدول، ويشبه لدينا رؤساء الغرف التجارية.
ترك الاحتكار الضار
ويقدم د. المزيني رؤيته لمعالجة هذه الأزمات إذ لابد من الرقابة والتنظيم من الجهات المعنية، وبالأخص وزارة التجارة والغرف التجارية وحماية المستهلك، كما أنه ينبغي أن تكون إدارة حماية المستهلك منفصلة عن سلطة التجار، وذلك لضمان استقلاليتها وعدم تأثرها برغبات التجار المسيطرين على السوق، وفي المقابل لا بد من تشجيع التجار على جلب السلع وترك الاحتكار الضار، وفي صحيح مسلم من حديث معمر بن عبد الله العدوي قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم :» لا يحتكر إلا خاطئ «، وقد روي في الأثر «الجالب مرحوم والمحتكر ملعون»، والتنظيم لا يعني تقييد حرية التجارة بحيث يضيق على التجار بقيود بيروقراطية لا معنى لها إلا مجرد تطويل الإجراءات وتعقيدها، فإن هذا يضر بالجالب والمنتج والمستهلك معاً، ومن ذلك أيضاً أن الاحتكار لا ينهى عنه مطلقاً، بل إن الفقهاء لا يمنعون ادخار السلع إبان كثرة العرض ووفرة الغلات كثرةً تفوق الطلب، بل صرحوا بأنه مطلوب لئلا تنخفض الأسعار انخفاضاً يصرف المنتجين عن الإنتاج والجالبين عن الجلب للسوق، فالممنوع هو كل ما يضر بالسوق ويغلي الأسعار غلاء فاحشاً.
ومن أهم الوسائل في معالجة غلاء الأسعار: تعزيز رباط الأخوة والتكافل الاجتماعي بين أفراد الأمة، وتذكير الجميع بواجب النصح وفضيلة الرفق، وإلزام التجار بواجب المسؤولية الاجتماعية، وقد نهت الشريعة عن التصرفات المالية التي تخدش جدار الأخوة الإسلامية وتسبب غلاء السعار، مثل النهي عن تلقي الركبان والنهي عن النجش وأن يبيع حاضر لبادٍ وغيرها من الممارسات الذميمة التي تؤدي إلى ارتفاع السعر ويدفع إليها الجشع، ولهذا كان الجيل الأول من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أبعد الناس عن الطمع والجشع في مناشطهم التجارية، وأكثرهم تحذيراً منه، وقد كان علي رضي الله عنه يدور في سوق الكوفة بالدرة ويقول: «معاشر التجار؛ خذوا الحق تسلموا، لا تردوا قليل الربح فتحرموا كثيره»، وقيل لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ما سبب يسارك ؟ قال: «ثلاث، ما رددت ربحاً قط، ولا طلب مني حيوان فأخرت بيعه، ولا بعت بنسيئة»، ويقال: إنه باع ألف ناقة فما ربح إلا عقلها باع كل عقال بدرهم، فربح فيها ألفاً وربح من نفقته عليها ليومه ألفاً، وأخيراً لا بد من تتويج هذه الإجراءات كلها بالتمسك بدين الله، وتعزيز العمل بالشعائر والأخلاق والقيم الإسلامية.
الجزاء من جنس العمل
أما الدكتور فهد بن عبد الرحمن اليحيى أستاذ الفقه المشارك في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة القصيم فقال: لا ريب أن غلاء الأسعار مصيبة في حق عامة الناس ولذا يمكن النظر إليه من هذه الحيثية، وحينئذ فالمصائب قد ذكر القرآن أسبابها كما في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ}، ومقتضى ذلك أن نراجع أنفسنا لعل الله أن يخفف عنا.
قال سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} والمعاصي من أسباب المصائب بلا شك كما في الآيات السابقة، وقد تكون المعاصي المتعلقة بالبيع و الشراء أكثر أثرا هنا ؛لأن الجزاء من جنس العمل، كالربا والقمار والاحتكار والكذب والغش و التدليس والظلم وغير ذلك، وفي الحديث الصحيح عند أبي داود والترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه قال: قال الناس يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال».
وهنا نلاحظ معنى مهماً جداً.. وهو أن فلسفة الإسلام الاقتصادية تقوم على حرية السوق وعدم التدخل فيه بعد إرساء قواعد العدالة والضبط والتي منها تحريم الربا والغش والغرر والتدليس والاحتكار.
ولهذا حين تطبق هذه القواعد فليس ثم حاجة للتسعير، ولهذا قال البيهقي في السنن الكبرى (باب مَا جَاءَ فِى الاِحْتِكَارِ) عقب باب التسعير.
وكما أشرت فإن السوق الحر يضبط نفسه بنفسه كما يطلق عليه الاقتصاديون (جهاز الثمن) أو (العرض والطلب)، وقد يظن البعض أن التسعير يمنع الجشع وهو الحل الأمثل لغلاء الأسعار، وهذا قد يبدو لأول وهلة ؛ لكنه غير صحيح حين ندرك مآلاته.
فالتسعير معناه وضع حد معين لبيع السلعة مهما كان ثمن الشراء وبالتالي فإن التاجر حين يشعر أن هامش الربح قد ضاق ستضعف الحوافز لديه بتوفير السلعة حتى يقل العرض ويتزايد الطلب وهذا بدوره سيعيد ارتفاع الأسعار تلقائياً ولو في السوق السوداء أو يتضرر الناس بندرة وجود السلعة، وأما حين يبقى السوق حرا فهذا أحرى في المآل في توفر السلعة بسعرها الواقعي ولكن بشرط مهم جدا وهو تطبيق ضوابط السوق ومن أهمها -فيما له صلة مباشرة بالأسعار- منع الاحتكار بجميع أشكاله وعلى جميع المستويات.. على مستوى تجارة الجملة والتجزئة وعلى مستوى المستوردين الكبار والموزعين الصغار، فأنكى ما يفسد التوازن الاقتصادي هو الاحتكار.
وما نقل عن الإمامين ابن تيمية وابن القيم من كلامهما في التسعير فإنما هو في حال الاحتكار كما في نص كلامهما، ومنع الاحتكار هو بمنزلة فك الارتباط حال غلاء الأسعار، مع أني أرى أن التسعير مسألة اجتهادية يسع فيها الخلاف، وقد تكون منه صور مقبولة أو يضطر إليها المجتمع ولاسيما في حالات خاصة وسلع معينة، والله أعلم.
التفريط في الأمانة
ويشير د. فهد بن سعد الجهني - أستاذ الدراسات العليا الشرعية بكلية الشريعة بجامعة الطائف.. إلى أنه من المقرر في شريعة الله أن التوفيق والسعادة والبركة في الدنيا له أسبابه ومنها: القرب من الله وحسن طاعته فالله تعالى يقول {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وهذا الإيمان بالله من أركانه: الإيمان بقضاء الله وقدره والرضا به مما يولد عند المسلم شعوراً بالرضا والارتياح فالمؤمن أمرهُ كلهُ خير كما صح في الحديث.
ولا شك أن ما يصيب الإنسان من شرٍ في ظاهره فهو من نفسه وبما كسبته يداه ولا يظلمُ ربك أحداً، وبسبب تفريطه في أمورٍ كثيرة ومنها: التفريط في الأمانة ومن صور هذا التفريط: تفريط من أوكل لهم ولي الأمر الرقابة والعناية بمصالح الناس وأرزاقهم، فلا يؤدون هذه الأمانة كما ينبغي فيتركون التجار وأصحاب الشركات الكبرى على جشعهم وطمعهم دون رقيب ولا حسيب! فلا تكاد تجد عقوبة تُتخذ ولا قرار يصدر في حق متلاعبٍ أو غشاش!
وتجدُ ظاهراً ذلك التفاوت الكبير في الأسعار في السلعة الواحدة وفي البلد الواحد! بل وتجد ارتفاع سعر سلعةٍ ما بين حينٍ وآخر دون سببٍ معروف! والناس في حيرة وظلم لا يدرون ماذا يفعلون وإلى منْ يتجهون؟!