خرجت الجماهير العربية أخيراً من سراديب الأفكار النظرية المجردة ودائرة العنف إلى مطالب أكثر شفافية وسلمية، فالمطالب الإصلاحية تحولت من مظاهر شكلية إلى مفاهيم حديثة ومؤثرة مثل حق التعبير السلمي وحقوق الإنسان وفصل السلطات والديموقراطية، والجدير بالذكر أن الأدلجة أو التستر السياسي خلف الأفكار النبيلة كانت أحد أهم أسباب العنف وعدم الاستقرار على الساحة العربية، فحلبة الصراع كانت بين قوى متسلحة برغبة إحكام السلطة على المجتمع..
يأتي الغرض من إطلاق مصطلح الأدلجة أو محاولة السيطرة تحت غطاء فكري أو عقدي على بعض التيارات السياسية كإدانة لطريقة نشاطها الاجتماعي والسياسي، بسبب استغلالها للثوابت الفكرية أو الدينية التي تنطلق من مبادئ أو أصول ثابتة أو متشددة، فعلى سبيل المثال يحاول بعض السياسيين والمثقفين الوصول إلى الجماهير من خلال الدعوة إلى اتباع المذهب الحق أو الإيمان بشعار الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة، أو رفع شعار إعادة الخلافة، بينما تختبئ في حقيقة الأمر خلف تلك الشعارات مصالح ضيقة هدفها اختطاف الأفكار السامية لخدمة أهداف شخصية بحتة..
لفترة زمنية قريبة كان الإنسان العربي ينطلق في صراعاته أو آرائه وتوجهاته من أفكار دينية أو قومية، وقد كان صيداً سهلاً لأولئك المؤدلجين بروح السلطة الجامحة، لكن الظاهرة العربية الحديثة أعلنت بوضوح في انفجارها الأخير رغبة الجماهير في تحقيق مصالحها الفردية من خلال الحقوق المدنية، والسؤال الذي يطرح نفسه هل بالفعل وصل الإنسان العربي إلى مرحلة (النضج) الفكري عندما تخلى عن اللهث وراء الأفكار المجردة من المصالح العامة؟ هل أصبح الواقع العربي صراعاً ضد السلطة المطلقة، لا شأن له بغايات الدين أو مبادئ الفكر والفلسفة..؟
لم يكتسب مفهوم الأيدولوجيا طبيعة موضوعية ومحايدة في تحليل الأفكار إلا في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد استمر الخلاف حول أهميتها الاجتماعية والدور السياسي للأيدولوجيا، والسبب أن الدول التي حكمت شعوبها من خلال فرض نسق نظري محدد فشلت في مقاومة التغيير، وانهارت أمام الطوفان الجماهيري، وتُعَدُّ أكثر التعريفات شيوعاً للأيدولوجيا على أنها نسق عقدي سياسي أو مجموعة من الأفكار السياسية ذات توجه عملي تطبيقي. أو أفكار الطبقة الحاكمة، أو رؤية فئة أو طبقة للعالم، أو أفكار سياسية تعبِّر عن مصالح اجتماعية وطبقية، أو أفكار دعائية توظف لتزييف الوعي بين المستغلين والمضطهدين، وأفكار تضع الفرد في سياقه الاجتماعي وتدعم الشعور بالانتماء والهوية الجمعية، أو مجموعة من الأفكار يدعمها النظام السياسي بشكل رسمي ويستمد منها شرعيته، أو مذهب سياسي شامل يدعي احتكار الحقيقة..
يمكن اختزال الأيدولوجية وتعريفاتها الواسعة على أنها مجموعة من الأفكار المتجانسة بدرجة أو أخرى والتي تمثل الأساس لحركة سياسية منظمة، سواء أكان هدفها المحافظة على نظام القوى السائد، أو تعديله، أو الإطاحة به، فعلى سبيل المثال كانت الشيوعية السوفييتية ثمرة لأفكار كارل ماركس ولينين، تم استخدامها لتقويض الحكم القيصري، لكنها فشلت في مسايرة التغيير، فسقطت، كذلك لا يمكن فهم صعود ثم سقوط النازية في ألمانيا إلا في ضوء الأفكار التي نقرؤها في كتاب (كفاحي) لأدولف هتلر الذي كتبه قبل توليه السلطة، كذلك يدخل تاريخ التسلط القومي العربي والتطرف الإسلامي السياسي الحديث في دائرة الأديولوجيا، ولا يمكن تفكيكه وفهم أسبابه بدون دراسة موضوعية للأحداث السياسية في التاريخ العربي الحديث..
تستدعي الأحداث المتتابعة في العالم العربي مراجعة نقدية لأصحاب مشاريع النظريات الشمولية، فالمحافظ في الزمن الثائر على الثوابت يجب أن يتحلى بقدر أقل توحداً أو أيدولوجيةً، وأن يكون مستعداً للالتزام بقيم أكثر براغماتية وانفتاحاً، فالتطرف والتوحد لم يعد له مكان في حياة الدول، ولعل أهم تحديات المحافظين في الزمن العربي الراهن قدرتهم على مقاومة تلك الرغبة القوية في السكون والعيش داخل عوالمهم الخاصة، وقد يكون سبب ذلك ضياع الرؤية الإستراتيجية للمستقبل، أو لتعذر التنبؤ بما قد يحدث إذا لم ينحني أمام العاصفة القادمة، ويبدو أن لا مفر من التغيير، أو ربما أن التغيير قد وقع بالفعل، وينتظر الفرصة للظهور على السطح.. لذلك على المحافظين الراغبين في الاستقرار أن يمسكوا بزمام التغيير والتكيف مع المتغيرات بأقل قدر ممكن من الاضطراب، وتكمن الصعوبة في الشجاعة على تقبل مظاهر التغيير القادم قبل انفجاره في وجوههم، والعمل على التقليل من آثاره السلبية، لكن ليس من خلال لعبة الأيدولوجيا أو صراع الأفكار المجردة إنما عبر التعايش معه بأساليب شفافة وواقعية وعملية..