ما زال بعض القراء الكرام يطالبني بأن أكتب عن الأحداث الأخيرة في مصر وأصدائها في العالم العربي، رغم أنني كتبت مقالاً شاملاً بعنوان: «الثورات الشعبية بين الفتن والحريات» جاء على أصداء الثورة الشعبية التونسية، واستعرضت فيه سنن الثورات الشعبية السابقة وأنها لم تأت إلا بالفتن الدموية، وأنها لم تحقق أي مطالب لأصحابها كالثورة الفرنسية والإيرانية والبلشفية والصينية والكوبية ثم انتهت البلاد إلى الدكتاتورية والظلم، بعد أن دُمر اقتصادها وانتهك حرمة أموالها ودمائها وأعراضها. وختمت مقالي بأن الزمان غير الزمان فقد تكون السنن قد تغيرت لتغير المعطيات. فقد أصبح العالم قرية واحدة، وقد أزالت ثورة الاتصالات الرقمية كل أشكال حواجز الرقيب. ولكن في الفتن تضيع الحقيقة وتغيب العقول فمن عصم الله يده فيها فليعصم لسانه، ولذا لم أكتب بعد ذلك المقال شيئاً في مصر.
ولكن استكمالاً لمقالي السابق، فالدلائل حتى الآن تشير فعلاً إلى أن الزمان قد تغير، وأن النزاعات الدموية الناتجة من الثورات الشعبية لم تعد حتمية كما كانت. ولكن العاقل لا يأمن الفتنة وخاصة عندما يتعلق الأمر بالفتن العظمى. والباحث الفطن لا يقرر الأحكام حتى يصل إلى نتائج حتمية، ونتائج مصر وتونس لم تتضح كلياً حتى الآن، وإن كانت البشائر تبشر بخير. فالثورة التونسية قد نصرها الله بعد أن لطف بها من الانزلاق في بحر المآسي والدماء. كما أن الثورة المصرية ما تزال تحت لطف الله بعد أن توفرت أسباب اللطف الدنيوية المتمثلة في ما أبداه شباب مصر المتعلم من ثقافة احتجاج وطنية راقية، واجهها جيش باسل أبيٌّ هو من الشعب والشعب منه فاندمجا وتوحدا في المشاعر والأحاسيس. والبشائر حتى الآن تشير بأن كلا الثورتين قد تجاوزتا مرحلة الفتن، فما بقي إلا أن تتحقق المطالب الشعبية، فإن أراد الله وحصل هذا، فهنا يستطيع التاريخ أن يرسم سيناريو مخالفاً للسيناريو المعهود عن الثورات الشعبية.
الثورة الشعبية التونسية وأختها المصرية ما تزالا تحت التجربة وليس لهما شبيه تاريخي على الإطلاق (والثورات الشعبية غير الانقلابات). لذا فإنني أعتقد أنه من الخطأ الافتيات على أهل مصر وتونس - ممن يعيش خارجهما - فيتخرص بالغيب ويخوض في أمور الفتن العظمى التي لا يعلم عواقبها إلا الله، سواء أكان هذا الافتيات بالتحريض على الثورة أو التثبيط عنها على حد سواء.
فأهل البلاد أعلم بحالهم، والعلم وحده لا يكفي، فقد يخفى على أحد مقدار الظلم - إن وجد - الواقع على هذه الشعوب، ولكن الذي يتلقى السياط ليس كمن يعدها. وأهل البلاد الذين يعيشون فيها هم وحدهم من يستطيع تقييم هذا الظلم ووزنه بميزان الشرع أولاً، ومن ثم مقابلته بالمخاطرة المحتملة من الثورة وما قد تجلبه من ظلم أعظم وأطم، قد تمتد أثارها عقوداً طويلة.
يعجب الإنسان من جرأة المسترزقة من شيوخ ما يطلبه المستمعون على دماء المسلمين. فعلى مدى عقود طويلة، والقرضاوي - شيخ شيوخ ما يطلبه المستمعون - لم يترك فرصة ولا حالة ولا مناسبة تسفك بدماء المسلمين إلا وانتهزها فامتطاها مدعياً الشجاعة على حساب دماء المسلمين. ولم لا، وهو يزمجر ويرعد بعيداً عن أرض القتال والمآسي والآلام. فالقرضاوي يدرك سذاجة جمهوره، فهم لا يسألون عن الدليل في الأحكام الشرعية، ولا يحاكمونه عند إقحامه المسلمين في المهالك.
ما أرخص دماء المسلمين عند القرضاوي طالما أنه في قطر منذ 1961م ينعم بالأمن والسلام ويتلذذ بالزواج من الصغيرات، ويتذوق لذيذ طعم المنح والعطايا الجزال. فالقرضاوي هو من طبل وصفق لآيات قم ودافع عن عقائد الصفوية في إيران عند نجاح الثورة الخمينية في الثمانينات. والقرضاوي من أكبر المطبلين والداعين للعمليات الانتحارية، وهو من دفع بالفتن في العراق. ولم تأت رياح الثورة المصرية حتى أفتى بوجوب الخروج فيها، اقتياتاً على أهلها وعلمائها، غير مكترث بما قد تنتهي إليه الأمور. والحمد الله أن لطف الله قد كان حاضراً وأن الأمور قد انتهت إلى ما يحبه الجميع، ولكن لو كان الأمر غير ذلك - لا سمح الله - فلن يضر القرضاوي شيء كما لم تضره مواقفه في الثمانينات عندما صف ضمن صفوف شياطين قم، ولم يضره تحريضه على العمليات الانتحارية رغم انتشارها في العالم وتحريضه على الفتن في العراق.
يجب أن لا يُسكت اليوم عن تعرية حقيقة القرضاوي وأمثاله، فالإنسان لا يعلم أين ومتى ستكون الفتنة القادمة والتي سيذكي القرضاوي نارها مهما اختلفت معطياتها عن مصر وتونس، إلا أن تكون في قطر.