يعد الفهم أحد المستويات المعرفية المعتبرة في العمليات العقلية، كما يعد أحد المؤشرات التي تدل على أن الإنسان يتملك قدرات وإمكانات تؤهله لتنمية المعرفة والرقي بها واستثمارها وتوظيفها في التقدم البشري، والتفاعل الإيجابي مع المحيط الاجتماعي، وتختلف هذه القدرة بين الناس كيفاً وكماً، كما تختلف بينهم في المدة الزمنية التي يتحقق فيها الفهم، فهذا يفهم من الوهلة الأولى، وذاك لا يفهم إلا بعد لأي وجهد وتكرار. إن عملية استيعاب المواقف والمعارف تتم وفق مستوى الذكاء، ومقدار الدرجة التي يتم تحصيلها في مقاييسه المعتبرة، ووفق فطنة المتلقي ورغبته وحماسته، فالبعض يرغب بكل جد أن يفهم، ويحرص على توظيف كل المعطيات والعمليات التي تساعده على الفهم، والبعض الآخر يتعمد عدم الفهم، ويصر متعمداً على تجاهل كل المعطيات والعمليات التي لو عني بها والتفت إليها لتحقق له الفهم، وهذا الصنف من الناس يجد متعة واستمتاعاً في التظاهر بعدم الفهم، لأنه يظن أنه بالإيحاء الذي يبديه للآخرين من كونه غير مستوعب وغير فاهم، يجد المداخل والأعذار التي تسوّغ له الأخطاء، وتحقق له المكاسب التي يرغب أن يستأثر بها دون غيره متدثراً بمسوغ عباءة عدم الفهم الذي يتظاهر به ويتكئ عليه. والمعلمون بحكم الاختصاص وطبيعة المهنة والخبرة يعلمون حق العلم معنى «ما فهمت»، هذه الكلمة تطلق في كثير من الأحيان باعتبارها مسوغاً للخلاص من تحمّل المسؤولية، فهي أقرب إلى حالة التغابي المتعمد، فالمعلمون من أكثر الناس معرفة بهذه الحالة ودلالاتها، لطالما تعبوا منها وأجهدتهم، إنهم يعلمون ما تتطلبه من جهد جسدي وذهني لتقريب المعنى المراد من الدرس، إنهم يضطرون إلى تكرار المحاولة لتقريب المعنى لفظاً ودلالةً، إنهم يبذلون الكثير من الجهد والمحاولات حتى يتم استيعاب مفاهيم الدرس ومضامينه وغاياته، المعلمون أكثر من يعرف معنى كلمة «ما فهمت»، لأنها ترفع الضغط والنبض، وتضيق الصدر، وتورث الكثير من الهموم والإجهاد النفسي والبدني، لاسيما من الطلاب الذين يتعمدون التغابي والادعاء بعدم الفهم والتظاهر به.
ويبدو أن معضلة عدم الفهم لا تقتصر على الطلاب المتربعين على مقاعد الدراسة وحدهم، بل هناك غيرهم كثير لا يفهمون الدروس على الرغم من وضوح المقدمات والمؤشرات، ووضوح الشرح والبيان وبأكثر من طريقة وأسلوب، وتنويع أساليب الاستدلال على المعنى المقصود بالأمثلة الحسية والمعنوية الظاهرة التي يستطيع قليل اللب فهمها واستيعابها، وبالتالي لا عذر لمن يقول: ما فهمت، لأن المراد تحقيقه واضح المعالم، أوضح من الشمس في رابعة النهار، لا يمكن أن يتجاهله إلا من لا يحسب للعواقب حساباتها، أو لا إحساس لديه ولا مشاعر، قليل الفهم والفطنة، لا يحسن تحليل المواقف وقراءتها واستنباط أحكامها بشكل صحيح، أو غير مبال يعاند ويكابر، لا يعي عواقب الأمور ومآلاتها، يتجاهل عن عمد المعطيات والإرهاصات وإيحاءاتها التي تنبئ عن نتائج وخيمة خطيرة.
من سمات قليل الفهم أنه لا يدرك الحقائق والبصائر ولا يستوعبها مهما كانت درجة بساطتها ووضوحها، ومهما تكرّرت أمامه الشواهد والأمثلة، يبصر لكنه لا يستبصر، يعرف لكنه لا يعي، يأخذ العقلاء بيده إلى الطريق المستقيم لكنه يرفض ويظل يراوح مكانه مستمتعاً بالتجاهل وعدم المبالاة.
ومن سمات المعاند المكابر، اعتماده على معطيات ومفاهيم كان لها في يوم ما اعتباراتها ووزنها، اختلفت الظروف وتطورت العقول، ولم يعد لتلك المعطيات دورها وقيمتها، ولم تعد تلك المفاهيم مقبولة، ومع ذلك ونظراً لطغيان منطق المكابرة يظل المكابر متدثراً بذكريات ماض تولى، على الرغم من أن شواهد الحاضر تؤكّد بوضوح أن ما كان مناسباً مقبولاً بالأمس لم يعد مناسباً أو مقبولاً اليوم.
إن سمات اليوم وخصائصه ومستجداته ومتغيّراته المتلاحقة لن تمهل الذين لا يفهمون، كما أنها سوف تتصادم مع عقلية المكابرين، وبالتالي على الذين لم تمكنهم قدراتهم العقلية من الفهم أن يبحثوا لهم عن مصادر تساعدهم على التعلّم والفهم، وعلى المكابرين أن يتعلّموا من دروس الماضي والحاضر ففيها الكثير من العبر والعظات التي تستوجب التخلي عن الموروثات التي لا تتوافق مع معطيات العصر والتحلي بمفاهيم فرضتها مستجدات اليوم التي إن لم يتم التكيّف معها سيجد المرء نفسه خارج السياق، بل خارج التاريخ.