تقول الأخبار المتسربة من خلف الستار الحديدي (الليبي) إن الاضطرابات الأمنية تتفاقم الآن في ليبيا، وإن مدينة بنغازي سقطت، أو هي في طريقها للسقوط في أيدي الثوار، وكذلك بعض مدن الجزء الشرقي من ليبيا. كنت بُعيد سقوط النظام في تونس وكذلك في مصر، أستبعد أن تصل الاضطرابات إلى الدول العربية (الغنية)، وكنت أضرب المثل بليبيا تحديداً، على اعتبار أن لديها من الأرصدة والثروات ما يمكنها السيطرة على أية اضطرابات أمنية، في حين أن هذه الإمكانيات لا تتوفر للنظام التونسي والمصري؛ ولكن يبدو أن ضخامة المشاكل الاقتصادية، ومصادرة الحريات، وفشل التنمية هناك، أكبر من أن تحتمل؛ فما إن هبّت رياح التغيير التي تهب على كثير من الدول العربية هذه الأيام لم يستطع النظام الحاكم المقاومة، رغم ثروة ليبيا النفطية، فبدت أركانه تتداعى وبسرعة، وبنفس الطريقة التونسية؛ تبدأ الشرارة أولاً من مدن الأطراف (المهمشة) تنموياً، ثم يتسع الحريق في اتجاه المدن الرئيسة، لتصل الاضطرابات في النهاية إلى العاصمة؛ وما هي إلا أيام حتى ينتهي النظام.
لم أزر ليبيا قط، غير أن من زاروها في مهمات دبلوماسية أو إعلامية من الزملاء يتحدثون عن تخلف هذه الدولة إلى درجة تجعلها مثل دول العالم الثالث الفقيرة، بل والفقيرة جداً.
فكل ما فيها لا يدل على أنها دولة نفطية، على غرار المملكة ودول الخليج، فالتنمية، حتى (القشرية) منها، لا وجود لها إطلاقاً، والبنى التحتية للمدن، بما فيها العاصمة طرابلس، في غاية السوء والتخلف، وطريقة النظام الحاكم (علاقة الحاكم بالمحكوم) طريقة لا توجد إلا في ليبيا فقط، فالنظام الجماهيري كما يسمونه (نظرية ثالثة) من ابتكارات العقيد وبنات أفكاره، حيث الفوضوية، والمؤتمرات الشعبية، والنظم الإدارية التي ليس لها مثيل في كل بقاع الأرض؛ والنتيجة دولة متخلفة، وشعب فقير، تفرّقت نخبه المتعلمة والمتخصصة في كل بلاد العالم تبحث عن لقمة عيش، وتنتظر أن ينتهي (عبث) العقيد ببلدهم ليعودوا إلى وطنهم، وكما تقول كل المؤشرات القادمة من هناك حتى الساعة، فإن العودة (المنتظرة) أصبحت قاب قوسين أو أدنى على ما يبدو.
وما يحصل في ليبيا يؤكد النظرية (الجديدة) التي تقوم بترسيخها رياح التغيير التي هبت مؤخراً على الدول العربية، وفحواها أن (الحل الأمني)، أو هو (القمعي)، أو حل اليد الفولاذية، وتكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، لم يعد ينفع إذا ما ثارت الشعوب على قهرها واضطهادها، وفساد أنظمتها؛ فليس هناك أقوى من أجهزة ابن علي الأمنية في تونس، ولن تصل دولة بوليسية في العالم إلى مستوى قمع النظام الليبي لمعارضيه، حيث تمتد أذرعة قمعه إلى الخارج لتلاحق كل من يختلفون معه، ورغم كل ذلك ها هو يفشل حتى الآن في أن يحاصر الثورة.
قد ينجح العقيد في محاصرة الثورة وإجهاضها، وقد لا ينجح، فكل الاحتمالات مفتوحة؛ إلا أن الزلزال الذي ضرب ليبيا لا بد وأن يكون له ارتدادات من شأنها أن تدفع هذا النظام - حتى وإن نجح في محاصرة الثورة - إلى التخلي عن نظرياته المُهلكة والمتهالكة، والاتجاه إلى الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى، واستغلال عوائد النفط في بناء دولة عصرية تنتمي فعلاً إلى العصر الحديث وليس إلى حقبة الخمسينات والستينات من القرن المنصرم.
إلى اللقاء.