قبل أيام جاء إلى منزلي عامل مصري، يرتدي جلابية، وتحمل ملامحه صدقًا ونبلاً، بعدما أنجز عمله، وتفاوضت معه على أجرته، مازحته بأن يخصم لقاء احتفالات المصريين في ميدان التحرير، بعد تنحي الرئيس مبارك، ففوجئت بابتسامة لا تخلو من مسحة حزن غريبة، وقال لي بما يشبه الخجل والحياء، بأنه حزين أن ذلك حدث في مصر، وحاولت أن أشرح له أن التغيير مهم، وأن الله قد يكتب لهم عصرا جديدا من الرخاء، لا يحتاج معه أن يتنقل بين البلدان والدول بحثًا عن الرزق، فقال لي بالحرف الواحد: إيه اللي يمنع أنهم يتركوه يكمل الشهور الباقية ويمشي بكرامته؟.
خالفته الرأي، بأنه قد لا يصدق ولا يمشي بعد أن تهدأ همّة الشعب وعزيمته، كما أن كرامته لا تعادل كرامة ثمانين مليون مصري، تهان كرامتهم في اليوم عشرات المرات، من الشرطة ورجال الأمن والنظام نفسه، لكنه قاطعني قائلا: بس مش إحنا المصريين اللي ننتقم! إحنا بنقول له ربنا يسامحه!. بعد أن غادر ظللت أسترجع كلامه، وأقارن بين المصريين وغيرهم من العرب، فهل هذا الشعب شعب متسامح في طبعه، يكره الانتقام والتنكيل؟ أم أن هذا الفلاح المصري لديه من المُثل والقيم التي تجعله يؤمن بالعفو حتى عن قاتله؟ وماذا سيقول شباب الثورة الذين سكنوا ميدان التحرير عن هذا الصعيدي النبيل؟ هل سيعتبرونه نبيلاً أم جاهلاً؟. حتمًا سيعتبرونه جاهلاً وربما ساذجًا، والدليل على ذلك، أنهم لم يبرحوا الميدان بعد، وحتى وهم يحتفلون بتنحي الرئيس وخلع النظام بأكمله، لم تزل قلوبهم قلقة على مصير الثورة، لم يزل كل واحد منهم يشعر بالخوف على مكاسبهم حتى الآن، ينام الواحد منهم بعين واحدة، والعين الأخرى تنتظر ماذا سيحل بالدستور، وما إذا كان القضاة النزهاء هم من سيتولى صياغة الدستور بطريقة جيدة تكفل تداول السلطة، وهل سيتم تفعيل الدستور خلال الفترة المتبقية على حلول فترة الانتخابات الرئاسية، وهل ستكون انتخابات نزيهة دون تدليس؟.
هؤلاء الشباب حتمًا لن يضيفوا اسم الصعيدي شعبان الذي يعمل في الرياض إلى قائمة المغضوب عليهم من الشخصيات العامة، من ممثلين وإعلاميين ومشاهير، ممن وقفوا في صف النظام والرئيس السابق، فهم يفهمون أن هذا الشعبان هو رجل نزيه وبسيط وصادق المشاعر، ليس له حسابات ومكاسب ومع ذلك هو يلومهم بلهجة بسيطة للغاية: يعني اتحملناه ثلاثين سنة، حنغلب بقى على ستة شهور؟.
وأكاد أجزم أن هذا الرجل الصعيدي، ذا الجلابية، لا يهمه سوى حساب رزقه اليومي، وما إذا كان سيسدد ديونه هناك دون أن يضطر إلى بيع الجاموسة، أو يساعده في شراء كم فدان في كفر الشيخ؟ لكنه حتمًا لن يفهم فقرات الدستور وبنوده، ولن يدرك أن تداول السلطة قد يساعده في تحقيق أحلامه دون أن يسافر بعيدًا عن بلاد أرضها من ذهب، أو ربما هو يفهم، لكنه لم يعد يثق بالثورات، ويشعر أنها تتحول مع الوقت إلى دكتاتوريات جديدة، بعد أن تُدمن الكرسي، وتبتكر حيلاً جديدة للالتفاف على الدستور!.