الأدب الحقيقي يصنع الحياة ويسالمها، ويمهد لحياة كريمة، ينعم بها الإنسان أياً كان جنسه، وأيّاً كان منتماه وهويته، والكلمة بجميع دلالاتها وتعبيراتها تعد نشازاً في السياق ما لم تكن مهذّبة لسلوك المرء، مقوّمة من طباعه، راقية بذوقه، سامية بأخلاقه، تقوده إلى بناء ذاته، والقدرة على التعايش مع غيره، والتأقلم مع وقائع الحياة وتقلباتها والتصالح معها بدون خنوع، أو خضوع، أو محاباة، أو مصانعة تجافي الحقيقة، وتبتعد عن ملامسة الواقع، أو تحلّق في فضاءات بعيدة، أو مثالية.
استوقفني بيتان من الشعر (للجواهري) لظروف ألمّت ببلاده، وزعزعت أمنه واستقراره، يقول فيها متسائلاً مستنكراً، ومستنهضاً العزائم الراقدة:
أكلما عصفت بالشام عاصفةٌ
هوجاءُ نستصرخ القرطاس والقلما؟
هل أنقذ الشام كتابا بما كتبوا؟
أو شاعرٌ صان بغداد بما نظما؟
هنا يعبِّر الأدب عن احتقان الشارع العربي في أحد الأقطار العربية التي اكتوت بنار الاستعمار، وألهبت ساحتها الفتن الطائفية، وأجّجت مؤسساتها السياسية التدخلات الإقليمية، فكانت الشعوب الطموحة هي الضحية، وكان الوطن الكبير هو الجريح.
لا خلاف مع هذا الأديب أو غيره أن السأم واليأس والصبر يبلغ منتهاه عند الإنسان، ويفقد توازنه، وتتقلّب به عواطفه الرزينة، حين يرى المداهنات، أو المتناقضات. والحياة كلمة، والأدب يصوّر الحياة بكل أوضاعها وظروفها، ويحدّد مراحل التغيير والتطور والتراجع في مسيرة التاريخ.
من المؤكّد أن هذا اللون من الأدب، والطرح الفكري والثقافي تخلقه ظروف البلد، وما يعيشه من صراعات، ولا يستطيع بشر أن ينكر الموقف، أو يحجّم الآراء، ويكمّم أفواه الناطقين، بوصف هذا الخطاب جزءاً من الانفلات والتمرد والفوضى الصارخة في كل مجال، ولا يمكن بأي حال من الأحوال في ظروف كتلك الفصل بين لغة الخطاب، عند السياسي، وعالم الاجتماع والاقتصاد، ورجل الدين، وأرباب البلاغة والبيان.
خطورة هذا الاتجاه في الأدب بجميع أنواعه وفنونه حين نستنسخ هذه الذكريات، والنفثات، والاستغاثات، والاستنجادات بدعوى قوميات مختلفة، ونحاول تسكينها واجترارها في بلدان تنعم بالأمن، وترفل بالاستقرار، ويحفها الهدوء، وتعمرها الطمأنينة، هنا تبدو خطورة الموقف، ومن هنا تؤتى المجتمعات من حيث لا تعلم، ويغرّر بالأجيال الناشئة من حيث لا يشعرون، والنتيجة حرق الحرث والنسل، وانتكاسات تتلوها انتكاسات.
تأجيج العواطف واستثارتها بمثل هذه الاستشهادات التي توظّف في غير بيئاتها، بدعوى الغيرة والتعاطف، وتستخدم كلغة في ظروف غير الظروف التي أنشئت من أجلها سيجر مجتمعات وشعوباً عربية، وغير عربية في قضايا لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وينصرف النشء عن مرحلة البناء إلى مرحلة أخرى من الخوف، والترقب، واستجلاب العداوات.