الثورات التي تحصل هذه الأيام في عالمنا العربي تشهد ما لتأثير التكنولوجيا الرقمية الإلكترونية في كل مناحي الحياة بدءاً بالفرد ونفسيته إلى تعامله مع المجتمع، وتكوين شبكة علاقات جديدة تغير بالأنماط القديمة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً واقتصادياً.
تطرقت في مقالات سابقة عن كثير من هذه التأثيرات ومن بينها بداية نهاية الكتاب الورقي، ومعه نشهد أيضاً انخفاضاً تدريجياً متواصل في استخدام المكتبات سواء العامة أو حتى مكتبات الجامعات ومراكز الأبحاث، والانخفاض طال البحث عن المجلات العلمية والدوريات التي تعد الأساس المرجعي للأبحاث.
على بوابة مكتبة مدينة طيبة في مصر القديمة وضع هذا النقش «علاج الروح»، فالمكتبات كانت مستشفى وإسعافاً للعقول والأرواح وعلاجاً للجهل.. كان الناس يرتادونها بل ويحجون إليها بحثاً عن العلاج. الآن وأنت في غرفتك وبضغطة زر تجد كل أدوية العقل والمعرفة بين يديك، بدلاً من الحضور الجسدي للمكتبة. هذا التحول للمصادر الإلكترونية سيعمل على تغيير الطبيعة الاجتماعية للوسط الثقافي في التواصل الثقافي وتبادل المعرفة الذي كان يحدث في فترات الاستراحة وفي بوفيه المكتبة أو ردهاتها. وكما وضح البروفيسور جروم ماكدون من جامعة ألينوي: «إننا نخسر المرتادين، فقد يأتي الطلبة للمكتبة للدراسة وللتواصل الاجتماعي وللذهاب للمقهى الجديد الذي شيد لجذبهم، ولكنهم لا يستخدمون مواد المكتبة ولا خدماتها، بأي معدل كما كان في السابق حتى قبل عشر سنوات مضت».
وهذا دعا البعض إلى رثاء الزمن الذي كان به التواصل والحوار المباشر بين الأكاديميين أو المثقفين، بينما البعض يرحب بالزمن الإلكتروني وما يترتب عليه من بناء جديد ومعرفة جديدة أكثر عملية من السابق سواء من ناحية الوقت أو الراحة.
تؤكد الدراسات والخبراء انخفاض استخدام المكتبات منذ بداية استخدام المصادر الإلكترونية، فيما لا يبدو أن ثمة طرقاً ناجحة لإيقاف هذا الخفض إذا كان هناك أية طريقة أصلاً. وتوضح جمعية المكتبات البحثية الأمريكية (ARL) أن معدل الانخفاض في استخدام المراجع من المكتبة سجل معدل 4.5% في السنة ونسبة 1.2% للدوريات منذ عام 1991 حتى 2005. وينضم الطلاب للجامعات بفكرة متخلفة عن المكتبات وعن طريقة البحث عن المعلومات. وتوضح دراسة أمريكية عن هذه الجمعية أنه من بين ألفي كلية أمريكية في عام 2001 يشعر 93% من الطلاب بأن المعلومات من الإنترنت أفضل من الذهاب إلى مبنى المكتبة. إضافة لذلك، يذكر 83% أن جدول وقت المكتبة لا يناسبهم بينما 73% لا يملكون وقتاً كافياً للذهاب للمكتبة.
وتنقل جمعية المكتبات البحثية الأمريكية عن دراسة شاملة في بريطانيا أنه خلال السنوات العشر الأخيرة قبل عام 2004 انخفض استخدام المكتبة بنسبة 21% واستخدام الدوريات 35%. ويصل التقرير إلى نتيجة خطيرة بأن الناس قد يتوقفون عن استخدام المكتبات في بريطانيا بحلول عام 2020. وذلك ما دعا البرلمان البريطاني إلى تناول هذه المسألة مع لجنة الثقافة والإعلام والرياضة، ناشراً تقريراً يدعو إلى «تحرك سريع» لعكس اتجاه الانخفاض في المكتبات العامة.
وقد نشرت جمعية المكتبات الأمريكية (ALA) عام 2007 عشرة مقترحات لمستقبل المكتبات الأكاديمية والمكتبيين، في مقدمتها التركيز على زيادة المراجع الرقمية وتحسين وسائل خزن المعلومات واسترجاعها. كما أشارت إلى ضرورة تطوير مهارات العاملين في المكتبات في مجال الخدمات الرقمية لخدمة الطلاب، وزيادة الدعم للتطورات التكنولوجية. وسيكون التعلم عن خيار أكثر شيوعاً بشكل متزايد في مجال التعليم العالي، لكنها لا تهدد النموذج التقليدي للتعلم.
ولعل التوصية السادسة هي من أخطرها، حيث فيها أن التعليم العالي سينظر إلى المؤسسة المكتبية كعمل تجاري.. وتلتها في السابعة حيث سينظر الطالب إلى نفسه كزبون ومستهلك متوقعاً خدمات وتسهيلات عالية الجودة. هذا يعني تغيراً كبيراً في مفهوم المكتبة كقيمة ذهنية معرفية إلى اقتصادية معرفية.
ومن أهم المصادر الإلكترونية البديلة للمكتبة التقليدية هي جوجل، حيث يستخدمها قرابة 75% من الباحثين في العالم، مما دعا الكاتب الأمريكي المشهور كن أوليتا أن يقول: «نحن لا نبحث عن المعلومات بل نجوجلها». كل الكتب التي طبعت رقمياً متوفرة في مبحث جوجل. جوجل هي الأولى إعلامياً في العالم بريع يقدر بأكثر من 20 بليون دولار في السنة، مشكلة 40% مما ينفق على إعلانات الشبكة العنكبوتية.
انخفاض ارتياد المكتبات يتزامن من انخفاض استخدام المطبوعات بشكل عام سواء الكتب أو الصحف أو الدوريات. ففي الصحافة، منذ عام 2007 نجد صحف مثل سينسيناتي بوست وبالتيمور إكسامينر قد خرجت من السوق، بينما صحف بارزة مثل كريستيان ساينس مونيتور تحولت للإنترنت. كما شهدت الدوريات والمجلات انخفاضاً مماثلاً فخلال عام 2009، خفضت المكتبة العامة لسان فرانسيسكو إنفاقها على الدوريات بأكثر من 16%، وخلال عشر سنوات خفضت اشتراكاتها من أكثر من خمسة عشر ألف إلى حوالي أحد عشر اشتراكاً.
وقد انخفض إجمالي مبيعات الكتب 1.8% عام 2009 مقارنة بالعام الذي قبله، حسب التقرير الأخير لجمعية الناشرين الأمريكان (AAP). وهذا الانخفاض لا يعكس عدد الكتب المباعة بل قيمتها. بالمقابل فإنّ مبيعات الكتب عبر الإنترنت ترتفع سنوياً بمعدّل 71% منذ عام 2002م. وتشير تقارير 2010 بالولايات المتحدة لاستمرار زيادة مبيعات الكتاب الإلكتروني، حيث ارتفعت بنسبة 193%، مثلت 9% من إجمالي كافة المبيعات، بينما واصلت مبيعات الكتاب الورقي انخفاضها، وتتفاوت النسبة حسب موضوع الكتاب إذْ إنّ بعضها زاد مثل الكتب المدرسية والتعليمية.
الغريب حسبما وجدت الدراسات، أنه في الأوقات العصيبة والركود الاقتصادي يزيد ذهاب الناس للمكتبات كما سجل زيادة ارتيادها عام 2008 مقارنة بعام 2007 في ولاية واشنطن، حيث تقدم خدمات مجانية كتوفير أجهزة الكمبيوتر وإعارة الكتب بدلاً من شرائها. ولكن لسوء الحظ فإن الركود الاقتصادي أدى إلى خفض الدعم الحكومي للمكتبات بنسبة 41% لعام 2009.
بطبيعة الحال فالمكتبات الحديثة تطورت معتمدة بشكل متزايد على الإنترنت وتكاد تتحول إلى مكتبات رقمية بالكامل لتلبية حاجات الناس الذين يجدون في الإنترنت أسرع وأسهل من الذهاب إلى المكتبة جسدياً، إلا أن ذلك لم يساعد كثيراً في تخفيف معدل انخفاض ارتياد المكتبة التي قد تنقرض في المستقبل القريب.