قال شيخ الإسلام: «الفوضى في ساعة يحدث فيها ما لا يحدث في استبداد سنين»... وعطفاً عليه فإن العالم الرباني هو الذي يضبط مسار الأمور بالدليل الشرعي وفهم المقاصد وتقدير المآلات،
قال الإمام الشاطبي: «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً»، العالم الرباني عاقل إذا استخف الناس، وثابت إذا طار الشباب، ومبين إذا سكت الدعاة، وخير ما يمثله الإمام أحمد بن حنبل إذ جاء في طبقات ابن أبي يعلى (1-144) في ترجمة حنبل بن إسحق -ابن عم الإمام أحمد-: «قال حنبل: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله في ولاية الواثق، وشاوروه في ترك الرضا بإمرته وسلطانه فقال لهم: عليكم بالنُّكرة في قلوبكم ولا تخلعوا يدًا من طاعة ولا تشقوا عصَا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين، وانظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتى يستريح بر أو يُستراح من فاجر وقال: ليس هذا صواباً هذا خلاف الآثار». والواثق هو ابن المعتصم سار على نهج أبيه وعمه في القول بخلق القرآن، وأن الله لا يُرى في الآخرة، وامتحن الناس على ذلك وجلد العلماء وسجنهم وألزم المسلمين ببدعته، وقتل أحمد بن نصر الخزاعي -رحمه الله- أحد أصحاب أحمد ومع هذا لم يأمر الإمام أحمد بالخروج عليه، أو الثورة على ظلمه؛ وذلك حفظًا لدماء المسلمين في صورة تتناقض مع خطب الشيخ القرضاوي بتهييج شباب الفيس بوك - وليسوا فقهاء بغداد- في ميدان التحرير حتى قتل 365 شاباً مع مراعاة آلات الفتك وتطور الأسلحة وزيادة أعداد الجيوش في هذا العصر، وأكثر ما أوجعني تلك الحفلة التي جمعت القرضاوي وعصام البشير السوداني في اليوتيب من أجل الرقص على خراب مصر وكسر ظهر العروبة في الوقت الذي اختار جنوب السودان الانفصال بخيراته ليزداد الجوع جوعاً في نفوس السودانيين وكان الأولى بعصام البشير وجماعة الإخوان المسلمين أن يبكوا على حال السودان، مما يؤكد أن جماعة الإخوان المسلمين تكشر عن نابها في كل أزمة تطل برأسها على عالمنا الإسلامي السني الذي لا ينسى تأييدهم لحكم الملالي في طهران وثورة الخميني وتصديرها لبلاد السنة وتأييدهم لحزب البعث وزبانيته في احتلال العراق للكويت والشواهد كثيرة، ولي وقفات مع خطب القرضاوي ومداخلاته على قناة الجزيرة لحثّ شباب 25 يناير على الثورة من أوجه:
1- القرضاوي يستدل بأحاديث ضعيفة ويتجاهل أحاديث صحيحة تؤكد السمع والطاعة وتحذر من الخوارج ومنهجهم في الخروج على السلطة القائمة وتخريب البلاد، ومن ذلك استدلاله بما روى طارق بن شهاب البَجَلي رضي الله عنه: أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الغَرْز: أي الجهاد أفضل؟ فقال: «كلمة حق عند سلطان جائر»... وذكر القرضاوي أن مخرجيه قالوا إسناده صحيح... ومن ينعم النظر ويمعن الفكر في حديث العلماء عن هذا الحديث يجد أن القرضاوي فاته أن الأحاديث لا تُؤخذ بهذه الطريقة ولا تنزل على الواقع دون عرضها على أحاديث أخرى صحيحة تلزم المسلم بالسمع والطاعة وتبين له الطريقة الشرعية في النصح للحكام كما لا يمكن له أن يغفل اختلاف اللفظ والسند ورواياته تؤكد أنه أقرب إلى الضعف. ولا أدري لماذا يترك في مقابله أحاديث صحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما تؤكد السمع والطاعة واحترام هيبة الحاكم والدولة ومؤسساتها القائمة واستعمال اللين والرفق في النصح والإرشاد والصبر والاحتساب، ولا يمكن أن يفهم من الحديث جواز المظاهرات لأن الحديث يشير إلى قول الحق للسلطان والحاكم وجهاً لوجه بدليل ورود الحديث بلفظين لسلطان وعند سلطان وهما يدلان على القرب والظرفية وهكذا كان السلف الصالح والخلف الصالح ينصحون الحكام وجهاً لوجه برفق ولين وفق منهج النبي صلى الله عليه القائل في الحديث الذي صححه الألباني بمجموع طرقه: «من أراد أن ينصح لذي سلطان في أمر فلا يبده علانية ولكن ليأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه» وسار عليه خلفاؤه الراشدون والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين دون تهييج للعامة على رؤوس المنابر والقنوات الفضائية وسار على نهجهم الأئمة كابن باز وابن عثيمين وغيرهم ونقل الخطيب البغدادي عن هارون الرشيد أنه قال للأصمعي ضمن حكاية: «وقِّرْنا في الملأ وعلّمْنا في الخلاء». ويؤكد أن المراد وجهاً لوجه استدلال القرضاوي نفسه بما روى جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيد الشهداء: حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله»، وأما قوله «وجعل ابن القيم هذا النوع من الجهاد ثلاث مراتب: باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، حسب الاستطاعة، فإن ابن القيم نفسه هو القائل في إعلام الموقعين (3-6): «فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر» مما يدل أن القرضاوي كان بوقاً لقناة الجزيرة في كل أحاديثه وخطبه وكان انتقائياً وغير موضوعي في سبيل تصفية حسابات سياسية بين الدول، ولذلك كان يختطف النصوص ويبترها ويؤولها استدلالاً لمنهجه وتحقيقاً لأهداف قناة الجزيرة الفضائية.
2- تناقلت الجماهير قوله: «ولا علاج للمشاكل التي نعيشها إلا بالحرية التي أراها مقدمة على تطبيق الشريعة الإسلامية» وهذا القول خطير، والعلاج في الاعتصام بكتاب الله وسنة نبيه ومنهج السلف الصالح ولن يصلح حال الأمة إلا بما صلح به أولها كما جاء في الحديث، والخير كل الخير في تطبيق الشريعة بدليل: و{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، والعجب أن جماعة الإخوان المسلمين ترى الخروج على الحكام لأنهم لم يطبقوا الشريعة وتركوا الشعوب على حريتها في العقائد والعبادات والمعاملات ثم يأتي كبيرهم القرضاوي ليثبت التناقض وقلة الفقه وعدم العلم بمقاصد الشريعة التي لا تخفى على طويلب علم مبتدئ. بل إنهم اتخذوا من الحاكمية مسوغاً للخروج على الحكام ولو بالشبهة بحجة أنهم ارتكبوا ناقضاً من نواقض الإسلام فنشروا الفوضى طيلة عقود في عالمنا الإسلامي ثم يفاجئنا تصريح نقلته جريدة القدس العربي (العدد 6705 الاثنين 3 يناير 2011م، 28 محرم 1432هـ) بهذا العنوان: قيادي في الإخوان للقدس العربي: الجماعة تعيد النظر في رفضها ترشيح قبطي للرئاسة، وكان ذلك القيادي د. إبراهيم منير. وقد فسروا قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} تفسيرا غير موضوعي يخدم أغراضهم الحركية في الوصول للكرسي ولو على جماجم المسلمين في حين لم يغفروا لغيرهم الاتصال بالأمم الأخرى واتخذوا من قاعدة المصلحة والمفسدة وعقيدة الولاء والبراء مطية لبلوغ تلك الأهداف السياسية فما يجوز عندهم باسم المصلحة لا يجوز عند غيرهم باسم المفسدة.
3- إن تعلُّق الإخوان المسلمين والحركيين وعلى رأسهم القرضاوي باتهام الدولة بالفساد وأنه مسوغ للمظاهرات والخروج يؤكد اتباعهم لمنهج ذي الخويصرة الذي اتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالفساد إذ قال له: اعدل يا محمد، روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم، فقال: يا رسول الله اعدل فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل، فقال عمر: يا رسول الله إئذن لي فيه فأضرب عنقه، فقال: دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» وأثبتت الوقائع عدم فهم رموز الجماعة ومنهم القرضاوي بأحكام الشرع وأدلته فضيّعوا الأمة وشبابها حتى قال الألباني: «يوسف القرضاوي دراسته أزهرية وليست دراسة منهجية على الكتاب والسنة، وهو يُفتي الناس بفتاوى تخالف الشريعة، وله فلسفة خطيرة جداً، إذا جاء شيء محرم في الشرع يتخلص من التحريم بقوله: «ليس هناك نص قاطع للتحريم» وليت العلامة الألباني يرى القرضاوي وهو يشبه الفتى التونسي الذي أحرق نفسه بالغلام المؤمن في صورة تنسف كل الأحاديث التي تُحرِّم الانتحار مهما أصاب المسلم من الإحباط والقهر والأعجب من ذلك أنه يفتخر بمصطلح شيخ الثورة بعد أحداث 25 يناير وقد قام بتأويل أحاديث صحيحة على منهج الخوارج ودعا للخروج على جميع الحكام في الدول الإسلامية ويمجد الثورات والفتن كفتنة ابن الأشعث في صورة تتجاهل موقف أهل السنة والجماعة من هذه الفتنة وأمثالها كالإمام ابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية.
4- قد يقول قائل إن المظاهرات السلمية التي ليس فيها رفع للسلاح ليست خروجاً وإنما هي تعبير سلمي فالجواب على ذلك قول الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في ترجمة عمران بن حطان: (تابعي مشهور وكان من رؤوس الخوارج من القعدية بفتحتين وهم الذين يحسنون لغيرهم الخروج على المسلمين ولا يباشرون القتال قاله المبرد قال وكان من الصفرية وقيل القعدية لا يرون الحرب وإن كانوا يزينونه).. «وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- واصفاً الخوارج القعدية (والقعد الخوارج، كانوا لا يرون الحرب، بل ينكرون على أمراء الجور حسب الطاقة ويدعون إلى رأيهم ويزينون مع ذلك الخروج ويحسنونه) وروى أبو داود في مسائل أحمد عن عبد الله بن محمد أنه قال: «قعد الخوارج هم أخبث الخوارج».
5- من يستدل على جواز المظاهرات بخبر مسيرة سيدنا عمر وحمزة في صفيّن ولهما كديد ككديد الطحين، فالجواب عنها بأنها ضعيفة الإسناد وأنكرها علماء الجرح والتعديل، ثم إن الحال مختلفة فأهل مكة كانوا كفاراً كفراً بواحاً، ومع ذلك لم يدع المصطفى للمظاهرات في مكة والتخريب.
6- من يستدل على جواز المظاهرات بخروج أم المؤمنين عائشة في معركة الجمل، فالجواب بأنها خرجت في الأصل للصلح ولكنها جرت للمواجهة وندمت رضي الله عنها على ذلك ندماً شديداً كما أثبت ذلك الإمام الزيلعي في نصب الراية (4-69-70)
7-أئمة الإسلام يدركون خطورة الفوضى والمظاهرات، قال سماحة الإمام ابن باز -رحمه الله-: «والأسلوب السيئ العنيف من أخطر الوسائل في رد الحق وعدم قبوله أو إثارة القلاقل والظلم والعدوان والمضاربات ويلحق بهذا الباب ما يفعله بعض الناس من المظاهرات التي تسبب شراً عظيماً على الدعاة، فالمسيرات في الشوارع والهتافات ليست هي الطريق الصحيح للإصلاح والدعوة فالطريق الصحيح، بالزيارة والمكاتبات بالتي هي أحسن. وقال العلامة ابن عثيمين -رحمه الله-: «عليك باتباع السلف، إن كان هذا موجودًا عند السلف فهو خير، وإن لم يكن موجوداً فهو شر، ولا شك أن المظاهرات شر؛ لأنها تؤدي إلى الفوضى من المتظاهرين ومن الآخرين، وربما يحصل فيها اعتداء، إما على الأعراض، وإما على الأموال، وإما على الأبدان؛ لأن الناس في خضم هذه الفوضوية قد يكون الإنسان كالسكران لا يدري ما يقول ولا ما يفعل، فالمظاهرات كلها شر سواء أذن فيها الحاكم أو لم يأذن». وعلى مر التاريخ أثبتت تطبيقات السلف كلها صبرهم على الجور والاستئثار والظلم ومن أخطأ منهم فقد نقدوه وبيَّنوا مفاسد ذلك.. وأخيراً فقد انكشفت جماعة الإخوان المسلمين في الأحداث حتى إنهم قرروا تغيير حزبهم إلى حزب سياسي يفضح نواياهم وظهر جهل القرضاوي حينما يستدل على منهجه بالتاريخ الإسلامي غير مفرق بين الإسلام والتاريخ الإسلامي.. والله من وراء القصد.