تحدثنا في الحلقات الثلاث السابقة عن أسباب تحديد سعر صرف الريال بـ 26 سنتاً أمريكياً وقيمته اليوم بالنسبة للتضخم في أمريكا وبعض فوائد الربط التي ظهرت لنا. وبعد ذلك عرجنا بصورة موجزة على كيفية سيطرة مؤسسة النقد على هذه القيمة للريال داخلياً وخارجياً. ثم تحدثنا الأسبوع الماضي عن علاقة الريبو بالسايبر ومعنى الريبو وما يقابله من مؤشرات الفائدة التي يضعها البنك المركزي في الدول الأخرى. واليوم سنشرح بإيجاز علاقة السياسة النقدية بالربط وما ينطبق علينا وما لا ينطبق من النظريات الاقتصادية والممارسات العملية الحديثة. فالنظرية الاقتصادية لا تخطئ لأنها مبنية على منطق مثبت بالرياضيات، وإنما الخطأ يحدث في تطبيق النظريات في غير مواضعها. فوضع ارتباط الريال بالدولار يعني نظرياً فقدان السياسة النقدية السعودية لاستقلاليتها، وأما حقيقة فهذا يحتاج إلى نظرة شاملة تعتبر كل المعطيات للاقتصاد السعودي من أجل أن نحسن تطبيق ما يصلح تطبيقه من النظرية على اقتصادنا.
السياسة النقدية بإيجاز سريع هي التحكم في عرض النقود (السيولة النقدية) سواء بتوفيرها أو الحد منها على حسب وضع الاقتصاد العام. فإن كان الاقتصاد في حالة نمو قوي أقوى من طاقة المجتمع على الإنتاج والاستهلاك وأعلى من طاقة الموارد الأولية أو العمالية أو الآلية، لذا فإن التزاحم على الموارد والتوقعات المتفائلة ستخلق طفرة سعرية لا حقيقة لها وسينتهي الأمر إلى انفجار الفقاعة وما يلحق ذلك من أضرار على المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. فالسياسة النقدية تعمل على تجفيف السيولة النقدية والحد من نمو المعروض النقدي مما يكبح جماح الطفرة الاقتصادية. والعكس صحيح فعند ضعف الاقتصاد تعمل السياسة النقدية على توفير السيولة من أجل تحفيز الاستثمار والاستهلاك على حد سواء.
وأدوات السياسة النقدية المباشرة هي:
1- الاحتياطيات الإلزامية للبنوك.
2- وسحب النقد من الأسواق مباشرة باستخدام السندات الحكومية أو شرائها بالنقد الأجنبي.
3- قروض البنك المركزي للبنوك.
وغالباً ما يلجأ البنك المركزي إلى الأداة غير المباشرة وهي الأهم ولأقل خطر وهو سعر الفائدة.
ورفع سعر الفائدة أو تخفيضها من البنك المركزي لا بد وأن يتبعه إجراء لتعديل مستوى عرض النقود. فمجرد التصريح برفع سعر الفائدة مثلا لا يعني أن السوق النقدية ستستجيب إن لم يقم البنك المركزي بسحب بعض السيولة من البنوك من أجل إجبارها على رفع سعر الفائدة، وهو عمليات الريبو العكسي في السعودية، وعمليات بيع السندات الحكومية في السوق المفتوحة في أمريكا.
واستخدام الفائدة كأداة غير مباشرة هو أمر محبذ عند البنوك المركزية وخاصة في حالة الطفرات الاقتصادية. فالسياسة النقدية (كالسياسة المالية) يمكن تشبهها بلجام الخيل والخيل هو الاقتصاد. فإذا جمح الاقتصاد (الحصان) في طفرة اقتصادية فإنه من السهل جر اللجام بقوة لكبح جماح الخيل ولكنه قد يسقط ويحردن، فلا يقوم بعدها أبداً حتى لو (رخيت) له اللجام (أي اتبع البنك المركزي سياسة نقدية توسعية).
ومن عموميات أدبيات السياسة النقدية إلى القيود على السياسة النقدية في حالة الربط بعملة أخرى كالريال مع الدولار. فمن ناحية نظرية، فإن ديناميكية النظام المالي الدولي تفرض استحالة الجمع بين ثلاثة أمور:
1- ربط العملة.
2- مع استقلالية السياسة النقدية.
3- مع حرية تنقل الأموال دولياً.
لذا فالسيناريوهات المحتملة ثلاثة:
أولاً: فإما أن يتمتع البنك المركزي باستقلالية سياسة نقدية فيرفع الفائدة أو يخفضها بناء على الأوضاع المحلية الاقتصادية ويضمن حرية تنقل الأموال ولكن شريطة تعويم العملة كما في بريطانيا واليابان والدولار مثلاً.
ثانياً: أو أن تكون هناك إمكانية أن يتمتع البنك المركزي باستقلالية السياسة النقدية إلى حد كبير مع ربط عملته بعملة أخرى ولكن بوضع قيود على حركة الأموال الدولية كما تفعله الصين.
والخيار الثالث، والمتبع مثلاً عند دول الخليج، هو أن تتمتع الدولة بحرية تنقل الأموال مع المحافظة على سياسة الربط على أن يتنازل البنك المركزي عن الاستقلالية السياسة النقدية في توجيه الاقتصاد والمتمثلة في سعر الفائدة كأداة غير مباشرة أو عرض النقود كأداة مباشرة. فعدم لحاق الفائدة على الريال (الريبو العكسي) بالفائدة على الدولار الأمريكي مع ربطه به والحفاظ على ثبات معدل الصرف وحرية في تنقل الأموال الدولية سيخلق سيلاً من التحويلات المالية المتواصلة من خارج السعودية إلى داخلها باحثة عن سعر أعلى للودائع، وذلك إن كانت الفائدة على الريال أعلى منها على الدولار والعكس صحيح.
والديناميكية التي تفرض استحالة الجمع بين هذه الأمور الثلاثة تنشأ عندما يصبح الاستثمار في الودائع بالريال ذا عائد أعلى من الاستثمار في الودائع بالدولار أو العملات المرتبطة به كالعملات الخليجية وذلك عندما تُخفض الفائدة الأمريكية وتتبعها العملات المرتبطة به ولا تُخفض الفائدة على الريال. ولكن ما هذه الديناميكية التي تفرض استحالة الجمع بين هذه الأمور الثلاثة؟
ومبسطاً للمسألة، فعندما تُخفض الفائدة الأمريكية ولا تُخفض الفائدة على الريال يحدث السيناريو التالي:
1- يسحب المستثمرون أموالهم من ودائع الدولار ويشترون بها الريال.
2- يزداد الطلب على الريال فتقوم مؤسسة النقد السعودي بتوفير الريال (إصدار كميات جديدة) وبيعه لهؤلاء المستثمرين للمحافظة على سعر الصرف مع الدولار.
3- تدخر مؤسسة النقد هذه الدولارات التي قوضيت بالريال في الاحتياطي النقدي الأجنبي في صورة سندات بالدولار تدفع الفائدة الأمريكية المخفضة.
4- وبما أن الأموال تتحرك بحرية من وإلى السعودية، يقوم المستثمرون بإيداع الريالات السعودية في البنوك السعودية في ودائع بالريال السعودي تدفع الفائدة السعودية المرتفعة.
5- إذا لم تتدخل مؤسسة النقد، ستقوم البنوك بإقراض واستخدام هذه السيولة الجديدة، مما سيؤدي إلى زيادة المعروض النقدي، والذي سيؤدي إلى التضخم من ناحية وإلى تحكم السيولة الأجنبية في المعروض النقدي للريال السعودي من ناحية أخرى، وهذا ما لا يسمح به أي بنك مركزي أن يقع في سوقه المالية المحلية.
6- لذا، فمن أجل المحافظة على ثبات واستقرار توازن السوق المالية السعودية، تقوم مؤسسة النقد بسحب هذه الودائع (السيولة) من البنوك عن طريق بيع سندات بالريال والتي تدفع الفائدة السعودية المرتفعة.
إذن فالحصيلة من عدم خفض الفائدة السعودية تبعاً للفائدة الأمريكية مع المحافظة على سعر الصرف هو أن مؤسسة النقد ستدفع الفرق بين معدل الفائدتين. وسيستمر تدفق السيولة الأجنبية في شكل ودائع بالريال إلى أن تتوقف مؤسسة النقد عن التدخل في سعر صرف الريال وتسمح له بالارتفاع مقابل الدولار (أي فك الارتباط) أو أن تمنع تدفق الأموال أي تقيد حرية تنقل المال أو تتبع السياسة النقدية للاحتياطي الأمريكي وتخفض الفائدة على الريال، فإتباع مؤسسة النقد السعودي لمعدل الفائدة الأمريكي هو من أجل إضاعة الفرصة على السيولة الأجنبية غير الإنتاجية الباحثة عن الربح في الفرق بين معدل الفائدتين.
وفي الجداول الآتية تصوير افتراضي مبسط لميزان المدفوعات بالنسبة لمؤسسة النقد من أجل توضيح عملية التدخل لحفظ سعر الريال من هجوم خارجي وعمليات التعقيم التي تلغي أثر تحويل الأموال من وإلى السعودية.
السيناريو: تعرض الريال لهجوم من المضاربين من أجل إيداعه (في حالة عدم اللحاق بالفائدة الأمريكية) أو من أجل الاعتقاد بأن الريال سيعاد تقييمه وسيرتفع سعره.
الجدول الأول: الحالة قبل التحويلات (بالريال) من وإلى السعودية)
الموجودات المطلوبات
100 احتياط أجنبي 250 ريال سعودي (القاعدة النقدية) التي تولدها البنوك عن طريق التمويلات فتخلق ن1، ن2، ن3
100 سندات حكومية
50 ديون على البنوك
الجدول الثاني في حالة عدم تعقيم عمليات التحويل (أي عدم سحب الريالات المحولة من السوق النقدية)
الموجودات المطلوبات
150 احتياط أجنبي 300 ريال سعودي (القاعدة النقدية) التي تولدها البنوك عن طريق التمويلات فتخلق ن1، ن2، ن3
100 سندات حكومية
50 ديون على البنوك
الجدول الثالث: في حالة في حالة تعقيم عمليات التحويل (أي سحب الريالات المحولة من السوق النقدية) وهو ما يحدث عادة
الموجودات المطلوبات
150 احتياط أجنبي 250 ريال سعودي (القاعدة النقدية) التي تولدها البنوك عن طريق التمويلات فتخلق ن1، ن2، ن3
50 سندات حكومية
50 ديون على البنوك
الجدول الافتراضي الأول يصور أن مؤسسة النقد أخذت الدولارات من الأجانب وطبعت لهم ريالات فزادت القاعدة النقدية مما سيزيد السيولة في السوق المحلية ويرفع التضخم وسينعكس أيضاً على سعر الريال فيخفضه.
لذا فمؤسسة النقد تسحب هذه التحويلات عن طريق بيع سندات وهو ما يسمى بالتعقيم وهو ما يوضحه الجدول الثالث حيث يلاحظ زيادة الاحتياطي الأجنبي ونقصان السندات الحكومية وعدم تغير القاعدة النقدية وبالتالي المعروض النقدي.
السيناريو السابق (لحاق الريبو العكسي (0.25%) بالفائدة الأمريكية (0.13%) - الفرق هو علاوة المخاطرة بين السعودية وأمريكا-) هو السيناريو الذي يحدث هذه السنوات الأخيرة والسبب هو أن أمريكا تمر بمرحلة انكماش اقتصادي بينما نحن في مرحلة نمو. فأصبح الريبو العكسي (سعر الفائدة على الودائع) يتبع الدولار ثم أصبح السايبر هو سعر فائدة الإقراض لأن الريبو (2.0%) (سعر فائدة الإقراض من المؤسسة إلى البنوك) بعيد عن الريبو العكسي . وهذا فيه نوع ما من التحكم بالسياسة النقدية وإن لم يكن مباشراً. فالبنوك عليها أن تدبر السيولة من عندها فالاقتراض من المؤسسة على معدل الريبو غالٍ. ولكن لو كانت الحالة بالعكس كما في النصف الثاني من التسعينات لأصبحت السياسة النقدية عندنا مشلولة شللاً كاملاً في تبعية مطلقة للدولار فقد كنَّا في حالة انكماش وكانوا في حالة نمو فكانت أسعار الفوائد عندهم وعندنا مرتفعة وكان الريبو قريباً جداً من الريبو العكسي. (وقد ذكرنا في الأسبوع الماضي أن مفهوم معدل الريبو يقابل مفهوم سعر الخصم في أمريكا). وعلى كل فنحن في الواقع لم نشعر بهذا لأن نظامنا البنكي وسوقنا النقدية كانت مشلولة شللاً كاملاً في تلك الفترة والتمويلات كانت في حالة يرثى لها. فالفائدة لها تأثير قوي وفعال على الاقتصاد الأمريكي، ويتأثر بها غالب الشعب الأمريكي. فالبنوك هناك تتبع البنك المركزي عند تخفيض الفائدة فتُخفض تكاليف القروض وليس الحال كذلك في السعودية، لا من حيث اعتماد الاستثمار المحلي على القروض ولا من حيث إتباع البنوك التجارية السعودية لمؤسسة النقد في تخفيض الفائدة على كلفة الإقراض.
والرسمان البيانيان يبينان سعر الريبو والريبو العكسي والسايبر من عام 1999-2010
أهم مؤشرات الفوائد في السعودية من عام 1999-2010
ولنا في الأسبوع القادم تتمة.