«حسب أعلى المواصفات العالمية» عبارة يرددها بعض المسؤولين على أسماعنا في كل مناسبة يتم فيها إعلان أو تدشين مشروع من المشاريع، وعلى وجه الخصوص مشاريع البنية التحتية التي تكلف أرقاماً فلكية، وليس لدي أدنى شك بأن من نفذوا مشاريع مجارير المياه وتصريف السيول في جدة.
على تعاقب السنين كانوا قد أتحفوا أذاننا آنذاك بمثل هذه العبارات، وربما نُفّذت تلك المشاريع فعلاً بمواصفات عالمية مشابهة لتلك التي نُفّذت في بلدان عالمية مثل تاهيتي أو ساحل العاج، أو نيجيريا، أو كولومبيا. وخلاصة القول وللأسف، وهذا أمر نزفه لمن يتمسكون بهذه العبارة العائمة، أنه ليس هناك شيء اسمه مواصفات عالمية، ولا يوجد هناك أي دليل، أو قائمة لمواصفات أو كود تنفيذ اسمه «المواصفات العالمية»؛ لأن لكل دولة مواصفاتها ومعاييرها. نعم قد يكون هناك مواثيق سياسية دولية عالمية تشرف عليها هيئات سياسية دولية معنية، ولكن ذلك لا يمتد للمواصفات والمشاريع؛ لأنه لا يوجد هناك هيئات دولية عالمية للمجاري أو الكباري أو استراحات القطارات؛ فلكل دولة متقدمة أو متخلفة مواصفاتها الخاصة بها، وما يقبل في أمريكا قد لا يُقبل في ألمانيا أو البرتغال، والعكس صحيح.
وعندما طلبت المملكة من اليونسكو مساعدتها في إنشاء بعض الكليات في المملكة اقترحت اليونسكو كليتين ظلتا تحت إشرافها ردحاً من الزمن، هما كلية الهندسة وكلية التربية؛ لحاجة المملكة في ذلك الوقت للمعلمين ومهندسي الإنشاءات. وكان من أول الأقسام التي أنشئت فيها قسم الهندسة المدنية على اعتبار أن المملكة ستحتاج إلى مهندسين سعوديين ينفذون ويشرفون على المشاريع فيها. وقد أنشئت كلية الهندسة في عام 1962م وخرَّجت من المهندسين ما يفي بحاجة البلاد ويزيد، ولديها اليوم من أعضاء هيئة التدريس مجموعة كبيرة على أعلى درجات التأهيل، وهذه كلية واحدة فقط، فهناك كليات هندسة في معظم جامعاتنا بها قدرات مماثلة فأين هم من مشاريعنا الفلكية؟ بل أين هم من المشاريع التي تُنفَّذ في جامعاتهم؟ فأنا أعلم أن الكثير منهم يتفرج على هذه المشاريع كما نتفرج عليها نحن.
تُنفَّذ في المملكة اليوم مشاريع بأكثر من ثلاثمائة مليار ريال، رقم فلكي بكل المقاييس، بما فيها المقاييس التضخمية، بعض هذه المشاريع ترسى في وقت قصير جداً دونما إفصاح عن مواصفات عطاءاتها، فمشروع مستشفى، أو جامعة، أو محطة قطار قد يحتاج إلى أشهر عدة أو حتى سنوات لتحديد مواصفات عطاءاته، التي يفترض أن تنشر بكل شفافية على الملأ قبل ترسيتها لا بعدها، ولا يمكن أن يُكتفى فقط بالقول «إنها وفق أفضل المواصفات العالمية».
المشاريع الضخمة المكلِّفة قد لا تكون في المستقبل البعيد أفضل المشاريع لنا؛ لأنها تتطلب كلفة مماثلة للصيانة والتشغيل، ولدينا أمثلة واضحة لمشاريع بنيناها في وقت طفرة سابقة ولم نستطع فيما بعد تشغليها أو حتى صيانتها بمعايير بنائها نفسها، منها مشاريع مدن صحية، وطرق ومطارات، وجامعات.. فليس كل ما يناسب العالم يناسبنا، وليس كل ما يصلح لنا يصلح لغيرنا، ولدينا نحن خصوصيات غاية في الفرادة والتفرد سواء كانت تلك الخصوصيات دينية أو ثقافية أو مناخية.. فنحن نؤكد على خصوصيتنا في كل شيء إلا في مشاريعنا نطلبها بمواصفات «عالمية». ومن المؤسف حقاً أن يطالب البعض بشركات أجنبية لتنفيذ بعض مشاريعنا درءاً لفساد محتمل في تنفيذ هذه المشاريع كما يحدث في جدة اليوم. فعلاج الفساد يأتي بالقضاء عليه وتجفيف منابعه لا باستيراد ما قد يتكشف مستقبلاً أنه فساد عالمي مستورد؛ لأن الآليات التي تسمح بالفساد محلياً قد تستورده خارجياً! والغربيون، خاصة ممثلي الشركات، هم من أفسد مَنْ في الأرض ومَنْ عليها، وعلى وجه الخصوص خارج طائل قوانين بلدانهم.
وعندما تطرح جهة ما مشاريع مبالغاً فيها قد يكون ذلك لتحقيق مواصفات أخرى غير المواصفات العالمية، مواصفات تتعلق بتحسين الوضع الشخصي، أو لرفع الكلفة، أو لترتيب الأمور خارجياً أو غير ذلك. فعلى سبيل المثال عندما حان تسليم بريطانيا مستعمرة هونق كونق للصين استبقت ذلك بوقت قصير بمشاريع مبهرة باهظة الثمن على أعلى المواصفات العالمية، منها مطار بأكثر من عشرة مليارات جنية إسترليني استغربها المراقبون؛ لأن بريطانيا لن تستفيد منها لمغادرتها هونق كونق، وهذا ما دفع الصين إلى الاحتجاج عليها بحجة أن مثل هذه المشاريع ما هي إلا وسائل لتفريغ خزانة المال العام وتحويل الأموال لشركات بريطانية. وبعد اجتماعات مطوَّلة خُفِّضت كلفة المشاريع، وأوكل الكثير منها لشركات صينية، واشترطت الصين إبقاء ما لا يقل عن مليار ونصف المليار جنيه في خزينة هونق كونق قبل تسلمها.
نحن نفترض حسن النية في الجهات المختلفة التي تقترح المشاريع، وقد نصدق أن بعض مشاريعنا فعلاً تكلف هذه الكلف الفلكية، ولو أننا نرغب أن تعلن مواصفاتها وكراريس عطاءاتها بشكل مفصل في وسائل الإعلام كما تعلن الشركات المساهمة قوائمها المالية؛ فبعض هذه المشاريع كلفتها الرسمية تتجاوز رؤوس أموال شركات كبرى في سوق المال لدينا، كما أن ترسية مشاريع متنوعة مختلفة في مواصفاتها وتخصصاتها والخبرات التي تحتاج إليها (تعليم، صحة، قطارات، مجاري..) على مقاول واحد تتطلب طمأنة المستفيدين من هذه المشاريع، وهم هنا المواطنون المساهمون غير المباشرين فيها، على قدرته على تنفيذها ب»المواصفات العالمية»، أياً كانت تلك المواصفات. حتى ولو كان هذا المقاول عملاق مقاولات عالمياً ويستطيع - كما يقال - أن (يُبلِّط البحر)! فإبراهيم عليه السلام طلب من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، وعندما سأله جل وعلى ?أولم تؤمن? قال: ?بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي?، ?وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أولمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي..? صدق الله العظيم.
فنحن نثق ثقة كاملة في مسؤولينا، ومقاولينا، ومحافظي مناطقنا، ولكننا في نهاية المطاف نحتاج إلى طمأنة قلوبنا؛ حتى لا يحصل ما حصل في جدة وغيرها في مشاريعنا.
والدولة - حفظها الله - كما يعلم الجميع حريصة كل الحرص على البناء الصحيح للمشاريع، وعلى الاستفادة المثلى من موارد البلاد، وهي - كما نعلم جميعاً - تسعى ليس لمحاربة الفساد أينما وُجِد فقط، وإنما على الوقاية منه، فمن ثوابتنا الشرعية - ولله الحمد - رفض الفساد بجميع مظاهره، وبما أنه - كما يقال - «أوقية وقاية خير من قنطار علاج» فقد يستحسن المسؤولون استغلال الخبرات السعودية التي بنتها وهيأتها من مهندسين مدنيين ومعماريين ومتخصصين في إدارة مشاريع للتأكد من مطابقة مواصفات مشاريعنا لحاجاتنا المحلية لا مواصفات الآخرين «العالمية»، وذلك من خلال هيئة مستقلة لتأهيل المشاريع وتحديد كلفتها، تكون مستقلة بشكل كامل بحيث تدرس مشاريع جميع الجهات الحكومية.
وبما أن الشيء بالشيء يُذكر فنحن كلنا ثقة بقائد مسيرة الإصلاح في بلادنا بالإسراع ب»هيئة مكافحة الفساد» لمحاسبة القلة الشاذة من المقصرين أو ممن قد تسوِّل لهم أنفسهم بالانتفاع الشخصي غير المشروع من مشاريع الوطن، أو مَنْ تمتد أيديهم إلى المال العام، وأن ينظر - حفظه الله - في إنشاء شركة مساهمة للإنشاءات بحيث يساهم فيها المواطنون؛ لتعم فائدة خير المشاريع على الجميع؛ فمثل هذه الشركة الإنشائية، على غرار سابك أو أرامكو، قد تكون أيضاً ضمانة لجودة تنفيذ المشاريع المستقبلية.
والله من وراء القصد.