الآن بإمكان المثقف العربي أن يطمئن تماماً على وعي الجماهير العربية، تلك الجماهير التي كان يقول المثقف عنها: علينا إنقاذ الجماهير الجاهلة من جهلها رغماً عنها (!!) وذلك لأن الأيام العربية هذه الأيام أثبتت أن الجماهير أصبحت أكثر وعياًُ من المثقف ذاته، ففي الزمن الماضي كان دور المثقف هو شحن الجماهير بالعبارات الرنانة والطنانة التي تلهب حماسها بينما حضرة جناب المثقف يجلس في مكتبه ويرتدي نظارته المقعرة، وينظر إلى الجماهير الهاتفة في المظاهرات من علو شاهق، ويلقي إليها من النافذة قصاصة تحمل هتافاً سخيفاً مثل (سنجعل من جماجمهم منافض للسجائر)، في الوقت الذي لا تملك فيه تلك الجماهير حتى ثمن علبة السجائر (!!) ولكن دفع الأحزاب الاستغلالية لهذه الجماهير المسكينة هو الذي يلقيها أمام قنابل الغاز وخراطيم المياه وهراوات العسكر، ولعلنا نذكر كيف استدعى نوري السعيد الشاعر محمد الحبوبي الذي كان يهتف نوري السعيد القندره وصالح جبر قيطانها، وقال له بنفس اللغة الشوارعية اسمع يا حضرة الشاعر: إنني مثل غطاء البالوعة التي لو نزعها الشعب لانبعثت منها الروائح الكريهة والحشرات والقوارض وعم في البلاد المرض والأوبئة. وعادت صورة (القندره) أجلكم الله حينما سقط نظام صدام حسين، وظهر مواطن يجلد صورة صدام بالحذاء ويرد بحنق هذا الذي قتل شعب العراق، ثم لاحت القندرة مرة أخرى في المشهد العربي حينما رشق الصحفي العراقي محمد الزيدي رئيس الولايات المتحدة السابق جورج بوش الابن بالقندرة، ولعل من أطرف حكايات الشجب (بالقنادر) أن مظاهرة قامت في إحدى عواصمنا العربية وكانت الجماهير تحمل (هتيفاً) يقول عبارات مقززة عن نظام بلاده، وكانت الجماهير تردد خلفه بلا وعي كل جملة يقولها، وفي أثناء ذلك سقطت (قندرته) من رجله وصاح بمن يحملونه: (نزلوني طاحت قندرتي) ولكن الجماهير لم تفهم ما يعني وظلت تردد خلفه (نزلوني طاحت قندرتي). بالطبع هكذا كانت الجماهير إبان الثورات العربية التي جرت على شعوبها الفقر والويلات بفضل مثقفيها الأكثر جهلاً منها. أما اليوم فمنذ أن أشعل المواطن التونسي (البوعزيزي) النار بنفسه وأشعل من خلالها عدة ثورات في الوطن العربي فلم نجد قندرة واحدة أو حذاء يرتفع في كل مسيرات الجماهير العربية، فثورة تونس أصبح اسمها ثورة الياسمين وثورة مصر أصبح اسمها الثورة البيضاء، أما آخر المسيرات الثورية العربية وأظرفها فهي التي تحدث الآن في ليبيا وذلك لأن الجماهير هناك تعودت أن ترفع شعاراً ثورياً من الكتاب الأخضر يقول (ثورة الفاتح مثل حرف القاف لا تتكرر في القرن أكثر من مرة) ولكن لهوس الثورة بالمسيرات فيبدو أنها أخذت تتكرر في الدقيقة مرتين، لذلك لا غرابة حينما ينضم العقيد القذافي للمظاهرات حتى ولو كانت ضده!! فإذا ما نجحت سيكون هو الثائر الذي ثار على نفسه فيقود الثورة مرة أخرى تعيده للحكم وهذه الحالة الغريبة تمثل حقاًُ جهل المثقف وجهل الجمهور وجهل السلطة معاً فيا للهول.