تُعَدُّ ظاهرة التحضر من الظواهر القديمة؛ حيث حاول الإنسان العيش في المدن منذ آلاف السنين. ولقد ظهرت في بداية الأمر القرى ثم تطورت إلى قرى كبيرة ثم مدن ومراكز حضرية، كما تُعَدُّ ظاهرة اتساع المدن ظاهرة عالمية وليست خاصة بمنطقة دون أخرى إلا أن عملية التحضر في المملكة العربية السعودية تتصف بخصائص جعلتها تختلف عن غيرها؛ إذ تعيش تلك المدن عهداً مختلفاً من النمو من حيث السرعة الهائلة التي يمر بها هذا النمو عمرانياً؛ إذ تضاعف نمو الكثير من المدن في العقدَيْن الماضيين بشكل لافت وواضح للعيان.
وفي العقد الأخير من هذا القرن شهدت المدن السعودية عملية تحولية كبيرة اتصفت بمظهرَيْن أساسيَّيْن، أولهما ديمواغرافي، ويتمثل في تزايد عدد سكان هذه المدن بشكل كبير وسريع جداً؛ فعلى سبيل المثال تضاعف عدد سكان مدينة الرياض خلال عقدَيْن من الزمن فقط؛ ففي عام (1413هـ) كان عدد سكانها (2.700.000) نسمة، وبلغ (5.188.286) نسمة في آخر تعداد عام 1431هـ؛ وذلك نتيجة عوامل عدة مترابطة ومتداخلة نتج من ذلك المظهر الثاني من مظاهر التحول الكبرى، وهو التوسع في بنية المدينة ذاتها وتمددها رأسياً وأفقياً، وهذه التحولات ظاهرة للعيان ومشاهدَة لكل ساكن أو زائر لها إلا أن هناك مظاهر تحوُّل لا يراها إلا القلة من المختصين ويستشرفون شكلها القادم، هي التحولات الاجتماعية التي لا تأخذ شكلها النهائي أو البارز للعيان إلا بعد عقود من الزمن، وإن كان الناس في المدينة يتعايشون معها وقد يتأثرون بها ويتعاملون معها.
وحين الحديث عن هذه الظاهرة لا بد من الإشارة إلى جانب مهم في هذا الموضوع؛ فقد كان سبباً من أسباب هذه الظاهرة الاجتماعية المصاحبة لتوسع المدن، هو طبيعة تخطيط الأحياء السكنية في المدن؛ حيث غاب عن المخطط البُعد الإنساني العام للحي السكني؛ فلم يستطِع الوصول به إلى بيئة مواتية لازدهار النشاط البشري وتحقيق التفاعل الاجتماعي بين سكان الحي الواحد، وهذا ما حدا بالهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض إلى إعادة النظر في تصميم الأحياء بشكل جذري؛ لإضفاء الروح الاجتماعية على التخطيط العمراني للحي؛ وما ذلك إلا شعور بأن هناك ثمة ثغرة اجتماعية في نسيج المجتمع أوجدها التخطيط السابق الذي غاب عن باله الجانب الاجتماعي؛ فعقدت الهيئة ندوتين، وصاحبهما مسابقتان عالميتان خاصتان بصميم المساكن والأحياء السكنية، الأولى بعنوان (تصميم المسكن السعودي)، والثانية بعنوان (الحي السكني أكثر من مجرد مساكن)، وصاحبهما مسابقتان لتصميم الأحياء السكنية تحت شعار (الحي السكني.. سكن وحياة)، وشارك في المسابقتين (238) متسابقاً من مختلف بلدان العالم، وكان البُعد الأظهر في المشاركات إضفاء الجانب الاجتماعي على البناء المادي لتخطيط الحي السكني.
مظاهر التوسع العمراني في المدينة السعودية
إن من أبرز مظاهر التوسع العمراني في المدن السعودية تزايد عدد سكانها بشكل مطرد، وأحياناً أخرى في صورة قفزات إحصائية لافتة. وهناك أسباب لذلك، منها ما هو داخلي كتزايد نسبة النمو الطبيعي بين السكان أو الهجرة الداخلية، وهذه تمثل العامل الأكبر في هذه الزيادات؛ فعلى سبيل المثال يمثل النازحون من الريف إلى مدينة الرياض ثلثي حجم النمو لسكانها خلال خمس سنوات فقط (1991-1996م). وقد تكون لأسباب خارجية مثل تزايد القادمين إليها من الخارج للعمل، ويعود ذلك إلى العوامل الاقتصادية والتحسن في المستوى المعيشي للسكان.
تُظهر الدراسات أنه كلما طالت مدة بقاء المهاجر تناقصت رغبته في العودة إلى بلده الأصلي بشكل واضح، وسنة بعد أخرى تتزايد الأعداد المهاجرة أو المستقرة من جراء الهجرة إلى المدينة؛ ما يتطلب الأمر معه إنشاء الجديد من المساكن لاستيعاب هذه الأعداد القادمة، ومن هنا فإن لم تبادر الحكومة بإنشاء المباني وتنظيمها فسيخرج في المدينة ما يسمى بالأحياء العشوائية في الأطراف؛ لتستوعب المهاجرين الجدد الذين يستقرون فيها؛ فالدراسات تؤكد أن غالبية المهاجرين يسكنون أطراف المدينة حال وصولهم، ويحوِّلون هذه الأطراف إلى ما يُشبه القرى التي قدموا منها، إضافة إلى هذه الجموع المتزايدة من السكان التي تأتي إلى المدينة بحثاً عن فرص عمل أو الدراسة أو العلاج. ومكمن الخطورة الأكبر يتمثل في وجود هذه الأحياء العشوائية؛ حيث تفتقر إلى الخدمات والمرافق، وتتحول بمرور الوقت إلى جيوب للفقر، فضلاً عن تهيئتها البيئة المناسبة للجريمة، مع ضرورة الحذر من ربط تلك الانحرافات بالفقر فحسب، ولكنه عامل من العوامل يتعزز بتوافر البيئة والظروف السيئة.
إن المدينة عبارة عن أحياء سكنية متجاورة، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نعزل أثر التخطيط العمراني للحي وتصميم شوارعه ومرافقه العامة عن طبيعة النشاط البشري؛ فالتواصل بين سكان الحي وهذه المرافق يُبنى على طريقة تصميمها، ويُبنى كذلك على تصميم مواقع تلك المنازل التي يقطنونها، والمرافق العامة، والفراغات المكانية، بل يتحكم شكل هذا التخطيط للحي في درجة التواصل بين سكانه، قُرباً وبُعداً، حميمية، وتباعدية؛ فالحي السكني ليس فقط التصميم والبناء؛ فهو يتجاوز المادة إلى الجوانب الاجتماعية التي تجعل من المكان الذي تعيش فيه الأسرة فضاء للتقارب الاجتماعي؛ فأغلب الدراسات التي تتناول الحي السكني تعتبره مكاناً للتربية.
إنَّ عدم مراعاة هذا الجانب الاجتماعي جعلنا نرى مدننا السعودية تمتد من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب عشرات الكيلومترات، وشوارعها مكتظة، وتقاطعاتها مزدحمة، وبهذا تكون هناك حاجة إلى السائقين والخدم وأكثر من سيارة للعائلة الواحدة في ظل عدم وجود وسائل نقل مناسبة. ومما لا شك فيه أن مدننا لو خُطِّطت بما يُلائم عاداتنا واحتياجات وثقافتنا وعائلاتنا وأولادنا لكان أجدى وأنفع، ولتحققت وفورات اقتصادية كبيرة، ولتخففنا من كَمٍّ هائل من المشاكل الأخلاقية الاجتماعية؛ لذلك لا عجب أن يبرز على سطح المجتمع في مدننا السعودية عدد من التغيرات الاجتماعية والآثار الاجتماعية من جراء ذلك التوسع العمراني المتفجِّر إنشائياً، وبعض هذه الآثار تمثل مشكلة حقيقية للمدينة السعودية كما سنرى. وبكل حال يمكن إجمال الجزء الرئيسي من تلك التغيرات فقط؛ حيث قد يطول المقام لو ذهبنا للحديث عنها كلها؛ لذا سيتم التركيز على المهم منها والرئيسي فقط، ومن ذلك:
1- اختلال التركيبة الاجتماعية للسكان:
هذا الاختلاف لا يقتصر على المدينة فحسب بل يمتد كذلك إلى الأرياف والبوادي المحيطة بالمدينة، والمقصود به زيادة الذكور في المدن وقلتهم في الريف، والعكس بالنسبة للنساء؛ حيث تزيد نسبة النساء في الأرياف والبوادي، وتقل نسبتهن في المدن نتيجة أن الهجرة غالباً ما تكون من قِبل الذكور؛ وذلك لطبيعة المجتمع السعودي؛ حيث لا يمكن سفر المرأة غالباً أو استقرارها في المدينة بدون مَحْرم شرعي لها، بخلاف الرجل الذي قد يكون أكثر حرية في التنقل، كما أن أعمار من ينتقلون إلى المدينة من الأرياف والبوادي غالباً ما تتراوح بين (15 و35)؛ حيث يفدون غما للدراسة أو العمل، وهذه السن هي سن الفتوة والزواج؛ ما يُولِّد مشكلات أخرى تتعلق بتزايد مشكلة العنوسة بين النساء في غير المدن، إضافة إلى انتشار بعض الأنواع من الجرائم المرتبطة بهذا العمر في المدينة نتيجة لطغيان هذه الفئة العمرية والجنسية على التركيبة السكانية لمجتمع المدينة، كما يلاحظ ارتفاع سن الزواج بين الذكور والإناث في المدن أكثر منه في الريف، وهذه ظاهرة يستتبعها العديد من المشاكل الاجتماعية الأخرى.
2- التحول في شكل الأسرة السعودية من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية:
إن من أبرز المظاهر الاجتماعية المصاحبة للتطور الحضري والتوسع العمراني في المدينة السعودية تحوُّل الأسرة من أسرة ممتدة إلى أسرة نووية، وسبق الإشارة إلى أن الأسرة الممتدة يُقصد بها سكن الابن بعد زواجه مع أبيه، وكذلك بقية الإخوة الذكور؛ حيث تضم الأسرة الوالدَيْن والأبناء وزوجاتهم وأبناء الأبناء. أما الأسر النووية فهي تعني استقلال الأبناء مع زوجاتهم وأبنائهم في مساكن مستقلة بعيدة عن والديهم.
إن الدراسات الميدانية والإحصائية تشير إلى تنامي هذه الظاهرة، وعلى سبيل المثال كانت نسبة الأسر النووية في مدينة الرياض في عام (1407هـ - 1987م) تبلغ قرابة (63 %) من جملة السكان، ونجد أن النسبة ارتفعت في عام (1425هـ - 2005م) إلى (قرابة (77 %)، وهذا في أقل من عشرين عاماً، وهذا يشير بوضوح إلى تنامي ظاهرة الأسر النووية، مقابل تناقص الأسر الممتدة؛ فالأسرة السعودية تعرضت في سنوات النهضة الاقتصادية إلى هجرة قوية من الريف إلى الحضر، وترتب على ذلك أن انقسمت الأسرة إلى أكثر من أسرة نووية، وهذا التمزق في بنية الأسرة التقليدية أدى بدوره إلى انعكاسات سلبية على مجمل وظائفها ونشاطاتها.
إن مما لا شك فيه أن هناك حسنات للأسر النووية وكذلك لها بعض السلبيات، كما هو للأسر الممتدة؛ فهناك بعض من المزايا لكل من النوعين، تقوم في مواجهتها مجموعة من جوانب القصور؛ فثمة حقيقة في أنه توجد اختلافات عملية مهمة بين أنماط النظم العائلية التي تؤثر فعلاً في حياة الناس الذين يعيشون في كل نوع، وفي سلوكهم أيضاً. ولكن المقارنة العامة تُظهر أن الأسر الممتدة كانت تؤدي - وما زالت - وظائف اجتماعية، وأخلاقية، وثقافية، وتكافلية تعجز عنها الأسرة النووية؛ فتوارث القيم التعاملية بين الكبير والصغير، وتعلم المواقف الاجتماعية الأسرية المختلفة يتوافران بشكل أوضح في الأسر الممتدة، بخلاف درجة وجودهما في الأسر النووية، كما كانت الأسر الممتدة تقدم الدعم الاجتماعي والنفسي والمعنوي وحتى البدني لأفرادها من قِبل بعضهم بعضاً، بخلاف الأسرة النووية، التي تعني انعزال الأسرة في كيان اجتماعي وثقافي ونفسي وبدني خاص. وبالجملة فالأسرة الممتدة قناة للتواصل الثقافي والديني ولنقل التجارب والخبرات بين الأجيال؛ حيث يتاح فيها للطفل التواصل مع جيلين أو أكثر.
3- ضعف العلاقات البينية بين أفراد الأسرة:
نتيجة لتباعد أطراف المدينة إثر توسعها وكثافتها السكانية المستتبعة لظاهرة التوسع، فضلاً عن الانشغال الكبير من قِبل سكانها بهمومهم الخاصة وانشغالات مجتمع المدينة بشكل عام برز إلى سطح المجتمع المدني خللٌ في طبيعة التفاعل الاجتماعي بين أفراد الأسرة الواحدة من جانب وأفراد الحي الواحد (الجيرة) من جانب آخر؛ فتشير كثير من البحوث الاجتماعية العربية إلى أن التفاعلات داخل الأسرة العربية طرأ عليها مجموعة من المتغيرات تتمثل في جوانب عدة، من أبرزها تناقص الوقت اليومي الذي يقضيه أعضاء الأسرة معاً؛ ويرجع ذلك إلى خروج نسب كبيرة من النساء للعمل خارج المنزل للمشاركة في أنشطة اقتصادية واجتماعية متعددة، وانشغال نسب متزايدة من الذكور كذلك، وبخاصة أصحاب الأعمال والمشروعات ومَنْ يعملون أعمالاً إضافية لتحقيق مزيد من الدخل لمواجهة صعوبة العيش في المدينة، ويصاحب ذلك تزايد نسب الأبناء المنخرطين في مراحل التعليم المختلفة، بما يعنيه ذلك من قضاء ساعات في مؤسسات التعليم، إضافة إلى انشغالهم بواجباتهم التي تعزلهم عن أسرهم وقتاً كبيراً داخل المنزل.
إن معظم البحوث الاجتماعية والملاحظات اليومية ترصد بلا عناء انحسار كثافة ومجالات هذه التفاعلات لأسباب متعددة، منها ضغوط الحياة المادية والمهنية في المدينة، وانتشار الأنماط الحضرية في البناء الرأسي ذي العمائر الشاهقة متعددة الأدوار الذي يجمع أسراً من جهات شتى، وذات اتجاهات وميول متباينة، أو البناء الأفقي المستقل في شكل قصور وفيلات مستقلة ومتباعدة في المسافات، فضلاً عما تسببه متابعة القنوات الفضائية وما تبثه من برامج وتمثيليات وأفلام علمية على مدار الساعة من إضعاف لصلات اجتماعية مهمة كتبادل الزيارات والمجاملات بين الأُسَر، بل واغتراب اجتماعي داخل الأسرة الواحدة.
4- ضعف العلاقات الاجتماعية بين أفراد المجتمع بشكل عام:
ويمكن أن يُعبَّر عنه في أبرز مظاهره بضعف العلاقات بين الجيران، وهذا هو المشهد الأبرز الذي يمكن أن يلمسه كل راصد للظواهر الاجتماعية في أي مجتمع مدني؛ فعلى الرغم من تزايد عدد السكان في المدن بعد توسعها، وكان المتوقع أن تزيد العلاقات وتتشابك إثر تزايد عدد السكان، إلا أن الدراسات أثبتت أن نسبة العلاقة الاجتماعية بين السكان لا تزيد بكثرة عددهم وإنما تعتمد على الزيادة في نسبة تقابلهم. إن سكان المباني العالية ذات الأدوار المتعددة، وهو ما يكثر في المدن نتيجة للتوسع، قد يجدون صعوبة في تكوين علاقات مع الجيران، أو قد تكون هذه العلاقة ذات شكل قصير شكلاً ومضموناً؛ فهذه العلاقات تنمو عند الالتقاء في المدخل أو المصعد أو مواقف السيارة، ولا شك أن المباني متعددة الأدوار أدت إلى قلة العلاقات وتقطعها بين سكان الناس في المدينة على الرغم من وجودهم في مبنى واحد. وفي المدينة السعودية تُظهر إحدى الدراسات الميدانية أنه في الأحياء التي تكثر فيها الفلل أو العمائر المتعددة الشقق، التي يتردد عليها نزلاء كُثُر بشكل سريع، غالباً ما تكون تلك العلاقات رسمية وفاترة، بخلاف طبيعة العلاقات في الحي الشعبي أو أحياء وسط المدينة التقليدية.
ولقد تصاحب مع ذلك سبب آخر يُمثِّل حجر الزاوية في جعل أفراد المجتمع يلتقون مع بعضهم بعضاً، وبعد ذلك تعارفهم وتقاربهم، ألا وهو الممارسات الترويحية لأفراد المجتمع؛ فمن المعلوم أن الغالبية العظمى من الممارسات الترويحية تتم بشكل جماعي، وهذه من خصائص الممارسات الترويحية في المجتمع السعودي قبل التوسع في المدن والانتقال إليها، إلا أن الأمر تبدل في مجتمع المدينة؛ حيث حدث تغير في نمط الترويح؛ فتحول جزء كبير منه إلى الفردية أكثر منه إلى الجماعية، وليس ذلك عائداً إلى طبيعة الممارسة الترويحية ذاتها وإنما إلى البيئة الترويحية؛ فلم يعد ثمة مكان للترويح في الأحياء، وليس ثمة فسحات مكانية لالتقاء أطفال الحي الواحد أو نسائهم، بل الغالب الآن هو الانعزال في السكن الفردي واستجلاب ممارسات ترويحية تتناسب والمكان، وغالباً ما تكون هذه الممارسات ذات طابع فردي.
وبكل حال لا يمكن أن نغفل أن ضعف استشعار حق الجار الذي حث عليه الدين الإسلامي وضرورة التواصل معه؛ حيث أكد الله - عز وجل - ذلك في قوله: ?وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا? (36) سورة النساء، كما أكد المصطفى صلى الله عليه وسلم على حق الجار في الحديث الذي يرويه البخاري في صحيحه: «ما زال يوصيني جبريل بالجار حتى ظننت أنه سيورثه»، وفي ظل وجود هذه القيم الإيمانية واستشعارها بين سكان الحي الواحد في المدينة حتى وإن كانت كبيرة سيؤدي ذلك إلى المزيد من التواصل والتلاحم والقُرْب الاجتماعي، وذلك بدافع الحث الإيماني والرغبة في الامتثال النابعة من روح التدين العام التي يتصف بها المجتمع السعودي عموماً.
5- شيوع النزعة الاستهلاكية بين أفراد المجتمع:
وهذه الظاهرة تتزايد بين سكان المدن عادة، والشباب بشكل خاص، وهي ظاهرة تزامنت مع الانفتاح المجتمعي في المدينة، ونتيجة طبيعية للمغريات المادية، والتطور الكبير في فنون الدعاية والإعلان عن منتجات ليس بالضرورة أن يكون الفرد بحاجة إليها، ولا أدل على ذلك من رؤية مدى انتشار الأسواق والمجمعات التجارية بشكل غير طبيعي في المدن السعودية، ولن يكون من الصعوبة بمكان أن يرى ظاهرة تنامي الأسواق وكثرتها الطاغية جداً في بعض المدن السعودية.
إن هذه الظاهرة لا يمكن أن توجد في غير المدن لسبب رئيسي، هو أن تزايد السكان في المدينة يغري أرباب العمل بالتوسع في العرض والتنميق فيه، ويصاحبه إقبال الناس على الشراء تتبعاً لعادات اجتماعية قد تفرضها ظروف العيش في المدينة ومسايرة أهلها لبعضهم بعضاً حتى وإن كان ظاهرياً، وهذا في الغالب لا يظهر في التجمعات السكانية خارج المدن الكبرى، وحتى إن وجد خارجها فلا يمكن أن يكون بالشكل الكبير الذي يبدو عليه في المدينة؛ ومن هنا يمكن النظر إلى هذه الظاهرة - وهي تزايد النزعة الاستهلاكية لدى سكان المدن - باعتبارها نتيجة من نتائج التوسع الكبير فيها، ومحصلة متوقعة من جراء الثقافة الاستهلاكية التي تتصاحب مع الثقافة السائدة لدى سكان المدينة.
كما لا يمكن إغفال جانب آخر مُسبِّب لتلك النزعة الاستهلاكية لدى سكان المدن، ألا وهو كون التسوق أصبح جزءاً من الترفيه المشترك للعائلة؛ فالدوران في الأسواق يبدأ بغير حاجة، لمجرد الترفيه فحسب، ولكن جودة العرض وحُسْن الترتيب يغريان في أحيان كثيرة على الإقبال على شراء الإنسان ما ليس له به حاجة. ومكمن الخطورة هنا هو اصطحاب أبنائهم الصغار معهم؛ فيشاهد هؤلاء الأبناء نموذجاً صارخاً لسطوة الثقافة الاستهلاكية على الوالدين يقومان بشراء كميات هائلة من السلع. ومن المشاهد المألوفة حالياً أن العديد من الأسواق والمجمعات يوفر عربات صغيرة مخصصة لتسوق الأطفال؛ فنجد الكثير منهم يدفعون أمامهم العربات ويمارسون هواية الشراء على غرار آبائهم. ولا شك أن ذلك يؤثر بالسلب في التنشئة الاجتماعية لهؤلاء الصغار الذين يدرَّبون على أن يصبحوا كائنات استهلاكية في المستقبل.
مقترحات عملية لتجاوز المشكلات الاجتماعية الناشئة عن التوسع العمراني
1- إيجاد فرص مكانية وزمانية للالتقاء بين أفراد المجتمع:
ويمكن تحقيق ذلك من خلال ثلاثة مقترحات فرعية، هي على النحو الآتي:
(أ) التوسع في إنشاء المساجد والمصليات في المدن الكبرى:
من خلال تأمل وضعية المسجد ودوره في المجتمع سنجد أنه يهيئ ظروفاً مكانية وزمانية موحَّدة لاجتماع أفراد الحي الواحد أو العمارة الواحدة؛ ما يشجع على التعارف أولاً، ثم التآلف. فمشكلة العمارات السكنية التي تم أخذها من نظام العمارة الغربي تجعل الحياة الاجتماعية والروابط الاجتماعية فيها شبه معدومة؛ فالذي يسيطر عادة على هذه التجمعات الحذر والحيطة وليس الرغبة في التعارف والتآلف؛ باعتبار أن سكان هذه العمارات من منابت مختلفة. والحل في ذلك يتمثل في تخصيص مجموعة من الشقق المتجاورة في العمائر متعددة الأدوار لتكون مصلَّى، وسيكون حينئذ الأمر سهلاً على السكان ليتجمعوا في بيئة زمانية ومكانية واحدة؛ بالتالي يرى الجار جاره ويتعارف عليه وتنشأ بينهما فرص للحديث والتعارف والألفة تبعاً لذلك بدلاً من القطيعة والحذر نتيجة التباعد. ومما تحسن الإشارة إليه في هذا المجال هو أن بعض الدارسين لتاريخ تخطيط المدن وعمارتها دائماً ما يتناولون التجمع السكاني لأي مجتمع مسلم بأنه تشكل في بدايته من خلال التجمع حول المسجد الذي يكون في حدود مسافات سير مناسبة على الأقدام. الشاهد هنا هو أن المسجد كان ولا يزال محور التجمع البشري لأي مجتمع مسلم سواء كان تجمعاً صغيراً كما في القرى الصغيرة أو في المدن الكبرى، وكذلك ينبغي أن نطوع الأمر ليتناسب مع وضع العمارات الكبرى؛ ليكون نقطة تمركز رأسية، بدلاً من كونه نقطة تمركز أفقية كما في القرى أو المدن.
(ب) إنشاء مراكز اجتماعية في الأحياء:
إن مشروع (مركز الحي الاجتماعي) المشار إليه آنفاً يتطلب بالضرورة إيجاد فراغات مكانية في الأحياء السكنية لخدمة العلاقات الاجتماعية، مثلها مثل الحدائق والساحات المفتوحة وممرات المشاة. هذه الفراغات العمرانية والأماكن المفتوحة تُعدُّ مجالاً رحباً لاحتواء أنشطة السكان الجماعية والاجتماعية في كل حي من الأحياء، وتكون أرضية مناسبة للقاءات بينهم، إلا أن الفارق في كون (مراكز الأحياء) هي الأنسب يتمثل في أنها تتمتع بتجهيزات جاذبة، تتباين وفق مختلف المستويات العمرية والثقافية لسكان الحي، إضافة إلى وجود نوع من الضبط الذي يشجع الأهالي على دفع أبنائهم إلى ارتيادها بشكل مطمئن لهم تربوياً واجتماعياً.
(ج) التوسُّع في إنشاء الحدائق العامة
في وسط الأحياء:
وليس بخافٍ الأثر النفسي على وجود مثل هذه المساحات الخضراء في وسط هذه الغابات من البنايات الخراسانية المكونة للمدينة السعودية، فضلاً عن كون هذه الحدائق بيئة مكانية مناسبة لالتقاء سكان الحي الواحد، بخاصة كبار السن والأطفال والنساء، إضافة إلى كونها مظهراً حضارياً من مظاهر البيئة النظيفة، والمحافظة عليها.
2- إيجاد منافس سكني للمدن الكبرى:
من المعلوم أن الفترة الماضية كان التركيز فيها على التوسع الإنشائي والتعليمي والصحي المتجه إلى المدن الرئيسة بشكل كبير وواضح، ومن هنا لا بد من إيجاد منافسة لهذه المدن الكبرى بما تحويه من خدمات تعليمية وصحية، وذلك من خلال تشجيع نمو المدن الصغيرة أو المتوسطة للحد من توسع المدن الكبرى وتركز السكان فيها، وهذا يتأتى بتوجيه بعض المشروعات الكبرى إليها كالمستشفيات، أو الجامعات؛ حيث أنشئت حتى الآن أكثر من (20) جامعة في مختلف مدن المملكة الصغرى؛ لتحد من هجرة الطلاب والطالبات وأسرهم إلى المدن الكبرى لمواصلة الدراسة؛ فقد كان هناك فقط سبع جامعات كبرى في المدن الرئيسية، وهذا أدى بالفعل إلى نزوح أعداد كبيرة من مختلف المدن الصغرى إلى تلك المدن الكبرى لمواصلة الدراسة، وغالباً ما كانت الأسرة تنزح مع الابنة الطالبة لتسكن في المدينة لتطمئن على ابنتها، ويترتب على ذلك البحث عن عمل في المدينة نفسها ثم الاستقرار النهائي، ولكن بوجود الجامعة في مدينتهم نفسها سيؤدي ذلك إلى التقليل من نزوح العائلات لطلب الدراسة للأبناء.
3- تطوير التصميم العمراني للأحياء بما يتناسب والمجتمع السعودي:
على الرغم من كون هذا المقترح قد يبدو من الصعوبة بمكان، لكنه من باب تدارك ما يمكن تداركه، وما لا يدرك كله لا يترك جله؛ فالمخططات العمرانية التي بدأت تنتشر في أطراف المدينة السعودية أخذت طابعاً شبه موحَّد، يكاد يكون النموذج الشبكي؛ حيث يتوافر في البساطة وأكبر استغلال للأرض من قِبل ملاكها لزيادة عدد القطع المتاحة للبيع. ولكن هناك العديد من النماذج التخطيطية للحي السكني يمكن أن يُتاح من خلالها تحقيق الحياة الاجتماعية في الحي السكني. ويظهر ذلك من واقع تجربة عملية في المسابقة التي أجرتها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض حول هذا الأمر بخاصة، تقدم إليها أكثر من (280) متسابقاً، تفننوا في عرض تصاميم لأحياء سكنية لها عناية كبرى بالجوانب الاجتماعية التي كانت غائبة عن المخططات العمرانية السابقة.والله الموفق
المصادر
1- عبدالله الفايز، نظرة مستقبلية لمدينة الرياض عام 2020م، صحيفة الاقتصادية، ع 4902، 25-2-1428هـ.
2- عبدالله بن ناصر السدحان، الترويح في المجتمع السعودي، دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، 1428هـ.
3- (الحي السكني.. سكن وحياة)، الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، المملكة العربية السعودية، الرياض، 1428هـ.
4- محمد الوهيد، الهجرة من القرية إلى المدينة، مجلة الدارة، دارة الملك عبدالعزيز، الرياض، ع3، السنة 32، 1427هـ.
5- محمود فهمي الكردي، التحضر: دراسة اجتماعية، دار قطري بن الفجأة، الدوحة، 1984م.
6- ندوة (الانفجار السكاني في المدن العربية وتحديات القرن الواحد والعشرين) المعهد العربي لإنماء المدن، 2000م.
7- وزارة الاقتصاد والتخطيط، النتائج الأولية للتعداد العام للسكان والمساكن، المملكة العربية السعودية، 1431هـ.
8- ندوة (النمو العمراني الحضري في المدينة العربية: المشاكل والحلول) المعهد العربي لإنماء المدن، الرياض، 1406هـ.
* الوكيل المساعد بوزارة الشؤون الاجتماعية