توافدت أمس الأول وأمس رسائل الجوال تستدعي حملات الدعاء للفرد الليبي من الإخوة المسلمين، وهم يواجهون كارثة سحق تذكرنا بمجازر الدمويين في تاريخ البشرية، تلك التي لا تأتي إلا عن سلوك فرد سلطوي متعالٍ، يدكُّ الأرض يظنها ليديه، وما تلك التحليلات النفسية عن تركيبته العقلية وتكوينه الوجداني إلا جزء من حقيقة ناصعة لا ثاني لها، هو فرعونيته التي تلغي وجود الله في واقع وجوده، وحقيقة أنه ليس إله الكون؛ حيث القلوب التي تخلو من الإيمان لا تحول بين ما يصدره العقل من أفكار وما تؤديه الجوارح من أوامر، فيأتي عنفوان هذه النفس الأمَّارة بالسوء عنفواناً مكابراً ضعيف الإيمان، فقير المعتقد في ربه، ذلك المعتقد الذي عنه يكون الإنسان عقلاً واعياً، فاصلاً بين ما له وما عليه، بين مصير الناس بين يديه ومصيره بين يدي خالقه..
وهي ليست الصورة الأولى لواقع الليبيين في معتقل القذافي.. القراءات لتاريخ 42 عاماً قضاها الليبيون في جحيم العزلة، والفقر, والعذاب, والحاجة, والعنف, والتقييد, وملاحقة العلماء, والمنجزين، كفيلة لتوقع مثل هذه النتيجة برفع الصوت بالأجساد دروعاً, تتصدى فتكاً كانوا على دراية به، فذهبوا يتبرعون بأرواحهم، في موقف تاريخي أقل ما يمكن أن يشهد به هو بطوليته، وصدقه..
ملايين الليبيين هاجروا للدول العالمية والعربية، وحين هبَّت ريح غضبهم الشامل قالت النساء فيهم قبل الرجال منهم: سنعود لنزج في معركة النجاة بأبنائنا، وإن كانوا زهرات في مقتبل أعمارهم..
قصص سمعناها، وعشرات رويت لنا كلما جلسنا لزميلة من ليبيا تحمل هوية غير هوية وطنها، هروباً من الظلم والهتك والفتك والإفناء.. ولا أنسى السائق الذي رافقنا طرقات أوروبية, وقد اكتشفنا بعد أيام معه أنه يتحدث العربية بلهجة ليبية، فإذا به يقص علينا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، عما كان يشهده ويعيشه من عذاب داخل وطنه، حين كان داخله ويحمل هويته، بدءاً بعدم فرص الحياة الكريمة، وعدم النوم في أمان من بطش السلطة المباغت دون معرفة الأسباب.. ففر تاركاً وراءه - وهو المهندس المعماري - ليعمل سائقاً في دولة أوروبية، مفضلاً ذلك بكرامة عن أن ينتج لوطنه بمهانة، وهو يجهل متى تصوب عليه طلقات حية في عقر داره، أو في طريق سيره.. أو يزج بلا سبب بين القضبان..
حملات الدعاء التي توافدت لكل المسلمين للتضرع لله أن ينقذ شعباً مسلماً اختار الفرار من النار ستؤتي استجابتها من لدن رب هو تعالى أرحم بخلقه الصابرين, من رجل لا يرى إلا من ثقب نفس, هزلت, وضعفت، وخلت من السمات الإنسانية، ومن الدعامات الإيمانية.. أمَّارة بالسوء.
اللهم لطفاً من عندك ترحم به ليبيا الشقيقة بأهلها الصامدين.
اللهم واجعل شمس نصرتهم قريباً.