لما فتحت قبرص أخذ أبو الدرداء رضي الله عنه يبكي، فقال له جبير بن نفير رضي الله عنه: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله، وأذل الكفر وأهله؟، فضرب أبو الدرداء منكب جبير بيده، وهو يقول: ثكلتك أمك يا جبير، ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره، بينما هي أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك، إذ تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى، فسلط الله عليهم السباء، وإذا سلط الله السباء على قوم فليس له فيهم حاجة.
لا أدري ولكن قفز هذا المشهد في ذهني وظل حاضراً وبقوة يتراقص بين عيني وأنا أتابع أحداث عالمنا العربي هذه الأيام، فمن كان يتصور أن يحدث ما حدث وفي ظرف زمني قصير وبصورة عجيبة وغريبة!!، من كان يتوقع أن يُنحى الرئيس المصري بهذه الطريقة بعد كل هذا العمر، ومن خلفه تتساقط الأحزاب والرايات وتتهاوى الأسماء والوزارات، أو أن يكون الرئيس التونسي مشرداً مطروداً من بلاده بعد أن كان معززاً مكرما داخلها وحين يتنقل في بلاد الله الواسعة، أو يكون الصراع في ليبيا على أشده بين الرئيس وشعبه، والحال في البحرين هو كذلك غريب، وقل مثل ذلك عن اليمن، والجزائر، والمغرب، و...
لقد أمر الله عزَّ وجلَّ بالعدل على وجه العموم {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ومن أعظم صور العدل المأمور به العدل بين الرعية، ولذا كان على رأس السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله (إمام عادل) واختزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب هلاك الأمم وسقوط الدول في اختلال ميزان القسط وغياب المساواة بين الرعية لأسباب واهية ومفاضلات بشرية ساقطة (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد...)، وعلى هذا فسقوط النظام الجائر وتنحية الحاكم الظالم هي النتيجة الحتمية والسنة الربانية التي يؤصلها ويؤكد عليها ويبين حقيقتها ويجزم بوقوعها ولو بعد حين النص الشرعي الصحيح، وفي ذات الوقت يبرهن على تمثلها بين الناس واقعاً معاشا، الأحداث الأخيرة التي نراها بأم أعيننا ويعايشها إخواننا في عدد من بلادنا العربية اليوم في صورة ديناميكية لا أحد مهما كان متبحراً في السياسة بارعاً في استشراف المستقبليات كان يتوقعها ولو بنسبة ضئيلة، فتنحي أو تنحية ثلاثة من رؤساء الدول العربية بهذه الطريقة وفي هذا الزمن بالذات واشتعال ثورة الغضب في عدد من الدول أحداث خارج السياق العربي المعاصر.
لقد قلبت هذه الأيام صفحات التاريخ وأعدت قراءة النهايات فوجدت حكماً ومواقف تحتاج من الحكام قبل الشعوب إلى تذكرها وأخذ العبر والدروس منها خاصة ونحن في خضم هذه الأحداث التي لا تخرج عن سياق سنن الله الماضية الباقية، وإن كانت لا تمت إلى المألوف العربي بصلة إلا من زمن قريب.
نعم التاريخ لا يعيد نفسه ولا يمكن أن يمر على أجسادنا مرتين ولكنه يخلد في ذاكرته الأحداث ويعطي للعقلاء الفرصة لتجديد صفحاته وبعث روح الحياة فيه مرة تلو أخرى، وكأن ما كان هو الواقع المعاش أو أنه ما قد يحدث في مستقبل الأيام، ولذا فسكوت الشعوب المظلومة المغلوب على أمرها إلى أمد، وعواقب الظلم والجور وخيمة وذات أثر لا يمكن أن تخطئه عين ولو بعد حين، والعدل بدلالته الواسعة ومفهومه المعروف ومناحيه الشاملة والكاملة - كما قال معالي الشيخ صالح بن حميد في خطبة له رائعة (دعامة بقاء الأمم، ومستقر أساسات الدول، وباسط ظلال الأمن، ورافع أبنية العز، ولا يكون شيء من ذلك بدونه،... بالعدل قامت السماوات والأرض، وللظلم يهتز عرش الرحمن، العدل مفتاح الحق، وجامع الكلمة، ومؤلف القلوب، إذا قام في البلاد عمر، وإذا ارتفع عن الديار دمر، والدول تدوم مع الكفر ما دامت عادلة، ولا يقوم مع الظلم حق ولا يدوم به حكم) حفظ الله بلادنا من كل سوء، وأدام علينا أمننا، ووحد كلمتنا، ووفق ولاة أمرنا وحفظهم ورعاهم وسدد على الخير خطاهم ورزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم على محاربة الفساد وسلوك طريق الإصلاح وتنهج معهم سبيل العدل والفلاح ويكون على يدهم تحقيق مصالح العامة بالقسطاس المستقيم والميزان القويم، ووقانا جميعاً الفتن ما ظهر منها وما بطن، وحقن دماء المسلمين وجعل ولايتهم فيمن يخاف الله ويخشى عقابه إن هو ظلم، ويتقيه ويتبعه فيما أمر به ونهى وزجر وإلى لقاء والسلام.