بدءاً بأحداث العراق، ومروراً بإعدام صدام، والأزمات المالية العالمية، وانتهاءً بأحداث (تونس ومصر)، وما تلاها من حالات هستيرية تمثّلت في قيام بعض الزعماء بقيادة المظاهرات ضد أنظمتهم. كل هذه الحوادث صنعت مني إنساناً آخر، وحولتني كغيري من الناس - على غفلة من الذات - من فرد منطوٍ على ذاته، منهمك في هموم عمله، له بعض المطالعات والقراءات في زوايا محدّدة من الحياة، يسعى من خلالها إلى تطوير ذاته، أو تنوير من حوله، هذا هو منتهى الأمل والطموح في الحياة، وليته توقّف عند هذا. تحوّل هذا الإنسان فجأة إلى شخصية أخرى يضرب في رأيه، وتحليله، وفكره في كل اتجاه، ويناقش في كل قضية، ويتصدّى لكل حدث، بل ويزعم الاستشارة، ويغضب إن تجاهله جمهوره. لأنه بفترة وجيزة أحاط بما لم يحط به أحد، فعرف من خلال قنوات إعلامية جغرافية العالم، وموارد اقتصاده، وجال في تعدّدية المذاهب الممقوتة في كل بلد، واستمع إلى أنظمته ودساتيره المحفوظة في الأرفف، فراح يحلّل ويعلّل بإمعان واستفاضة، ولم يدرك من هذا كله إلا (مشية الغراب)، و(شر البلية - كما قيل - ما يضحك).
لا أحد يتجاهل أن الحوادث والتجارب مثرية للإنسان، تزيد من رصيد وعيه، وتفتح آفاقه إلى مجالات أرحب، وأكثر اتساعاً، وتنقله من عالم إلى آخر، ومع ذلك صرفني عن هذه الحوادث على أهميتها إحدى المقولات (لنظير زيتون) في كتاباته التي رصد بها تجربته بالحياة، بعد أن جاوز الثمانين، وطاف في بلاد عديدة، وعاش أحداثاً كبرى مريرة، ودخل في كل نفق من أنفاق الحياة، حتى إذا ودّعت كل قواه هذه الحياة بمثل ما استقبلت به، خلص من هذا كله، ومضى في حديثه، وخلاصة طرحه أن هذا التطواف الفاشل ناتج من سوء تقديره للحياة، وعدم فهمه للسنن الكونية والإلهية، كل هذا صرفه عما هو أهم وأعظم ألا وهو مشاركة الإنسان في بناء وعمارة هذا الكون، دون الدخول في دائرة الضجيج والعويل. هنا أدركت عبقرية (المتنبي) وعظمته حين قال في إحدى فرائده، محكماً الضمير:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدعُ
إن قاتلوا جبنوا، أو حدثوا شجعوا
وما الحياة، ونفسي بعد ما علمت
إن الحياة، كما لا تشتهي طبعُ
أأطرحُ المجد عن كتفي وأطلبهُ
وأترك العيث في غمدي وأنتجعُ؟
لكل إنسان مجد خاص يجب أن يدور في فلكه، ولا يتعدى إلى سواه إلا على هدى، لكن هذا هو الإنسان المسكين، المتجاهل لحياته الخاصة، المنغمس في أحداث غيره، المنشغل بقضاياهم دون أن يمتلك الأدوات والمقومات.