تقرير - سلطان المواش:

لم تفتر زيارات مختلف شرائح المجتمع لمعرض تراث المملكة العربية السعودية المخطوط طوال الخمسين يوماً الماضية والذي يقام في قاعة الملك عبدالعزيز التذكارية بدارة الملك عبدالعزيز بالمربع، بل تنوعت وأضيفت لها زيارات من خارج منطقة الرياض ومن خارج المملكة العربية السعودية، فرعاية صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز لحفل افتتاحه دفعت به إلى مقدمة الأنشطة الثقافية في المملكة ودعمت تواجده على قائمة الأجندة العلمية لدى الباحثين والباحثات والمؤرخين والمهتمين بالتاريخ وشؤونه المختلفة، وما تبع ذلك من الأصداء الرسمية العالية التي جذبت وفوداً سياحية وأخرى من القطاع الخاص من زيارات لمهتمين ومختصين في التاريخ بصفة عامة وعلم المخطوطات بصفة خاصة، فهاهما شابان يقفان أمام مخطوطة لابن تيمية عن رسالته في الطلاق ليعترفا بعد تأمل للمخطوطة لمشرف المعرض بأنهما: (أتيا من منطقة القصيم لرؤية خط الشيخ ابن تيمية وسيرجعان حالاً) بينما حرص باحثان من الكويت ضمن زيارة علمية لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن يكون ضمن برنامج الزيارة للمملكة العربية السعودية الاطلاع على المعرض والتعرف على مكوناته ومقتنياته وعبرا عن القيمة التاريخية والعلمية لهذا النشاط المتميز وسجلا كلمة في سجل الزيارات تنم عن إعجابهما بالفكرة والمضمون وريادة دارة الملك عبدالعزيز في تنظيم مثل هذه النشاطات المعرفية، ومن المشاهد العديدة أن يقف مدير مركز الخيل العربية بألمانيا جورج أولمز طويلاً ويستمع إلى ترجمة من أحد المرشدين السياحيين لمقاطع من مخطوطة (سهيل في ذكر الخيل) لمؤلفها الشيخ عثمان بن عبدالله بن بشر قبل 150 عاماً ليبتسم ووفد المركز الأوروبي ابتسام إعجاب عميقة بتلك الدقة في الوصف للخيول وأنواعها مؤكداً أن هناك خيولاً عربية أصيلة أخرى لا تقتصر على مضامير السباقات.زوار أجانب توقفوا طويلاً أمام مخطوطة لمصحف كريم يعود إلى أربعمائة سنة وكأنهم يقرؤون العلاقة المديدة والقديمة بين هذه البلاد والدعوة الإسلامية وامتدادها التاريخي الذي تعزز بالإسلام، ودور السعوديين في النهوض مرة ثانية بالدعوة إلى تعاليم الشريعة الإسلامية. ورسم منمنم للحرم المكي الشريف لحاج فارسي يعكس فناً وحباً بين المسلم ومكة المكرمة، لكن أقدم المخطوطات على الإطلاق نسخة من المجلد الثالث من مسند الإمام أحمد بن حنبل الذي يعد أحد أعمدة الفقه الإسلامي فبعد رحلة دامت ثمانمائة سنة من يوم خطها طافت على ثلاث مناطق هي الشام وبغداد فالجزيرة العربية، استقرت قريرة العين في دارة الملك عبدالعزيز.لكن المشهد المؤثر بعمق حين يلقي أحفاد أحد المؤرخين أو المؤلفين للمخطوطات أو أحد من سلالته النظر في مخطوطة جده الذي لم تمت صلته بالعالم الخارجي لوجود مخطوطته وهي تساهم بدور فعال لخدمة البحث وتقدم المعلومة وتثري المكتبة نيابة عنه، فهؤلاء من هذه الفئة من الزوار يشدونك لأن تتأمل ملامحهم وهم يتأملون مخطوطات أجدادهم وكأنهم يتأملون أجدادهم أنفسهم، موقف مؤثر، والأكثر تأثراً حين قال أحدهم للآخر وهما يقفان أمام إحدى دواليب العرض بصوت عميق: (... وعلم نافع ينتفع به) في إشارة للأجر من رب العالمين الذي يأخذه المؤلف بعد مماته من كل متعلم عليها وفي إيماءة لفتوى هيئة كبار العلماء التي قضت بجواز وقف المكتبات الخاصة على دارة الملك عبدالعزيز لتعم الفائدة وتتوسع دائرة المستفيدين.

طلاب وطالبات مدارس حكومية وأهلية ألقى المعرض برسالته في عقولهم، واستفز أسئلة كثيرة لديهم عن تلك المخطوطات وعالمها وعلمها الذي بدا لهم ذي بعد معرفي عميق قد يدركونه مع تقدم سنهم وتحصيلهم العلمي، كثير منهم التقطوا صوراً مع تلك المخطوطات ذات الورق العتيق والأصول العلمية المتينة وكأنهم يصورون مع مخلوقات تاريخية أتت من ماض سحيق لا علاقة لها بوسائل التقنية الحديثة والتي تختصر الجهد والوقت وتحتضن الأفكار برحابة وسعة بال.

مشاهد بسيطة احتضنتها قاعة الملك عبدالعزيز التذكارية في الدارة تترجم الرسالة التي يبثها المعرض من خلال مائة مخطوطة ذهب مؤلفوها ونسّاخها في ذمة الله وأودعوها في ذمتنا نحن الأحياء في مختلف زواره بالاهتمام بتلك الكنوز العلمية التي لا تقدر بثمن وتعكس الاهتمام المبكر للدولة السعودية بالعلم والعلماء وحركة التأليف قبل أن تأتي الآلة الكاتبة للوجود وتزيح الريشة والقلم والمحبرة، وإبراز الدور المتواصل لدارة الملك عبدالعزيز واهتمام وتوجيه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبدالعزيز في خدمة تلك المنتوجات الفكرية الأصيلة التي تفرعت منها كثير من العلوم والفنون بالحفظ والصيانة والأرشفة ثم إتاحتها لمتطلبات البحث العلمي التاريخي المتنوعة.الأوساط العلمية والأكاديمية لم تخلُ تعليقاتها من المرور على المعرض الذي عدّته الأول من نوعه والتأكيد على دوره في تكريم هؤلاء الذين بذلوا جهوداً على مدى سنوات للمحافظة على المخطوطات عبر سني عمرهم أو عبر أجيال متتابعة في الأسرة مالكة المصادر التاريخية لتخلد بعد قلق الحفظ والخوف عليها في مؤسسة مختصة ومعنية ومهيأة لحفظها والعناية الدورية بها متمثلة في دارة الملك عبدالعزيز التي تمثل بهذا التجمع الكبير للمخطوطات نقطة تلاقٍ ونقطة إشعاع -في الآن نفسه- للباحثين والباحثات في تاريخ العلوم في الجزيرة العربية بصفة عامة وتاريخها في المملكة العربية السعودية بصفة خاصة وتوثيق النهوض العلمي في المنطقة الذي قادته الدولة السعودية الأولى.زوار المعرض الذي تقول التقديرات إنهم قد يصلون إلى عشرين ألف زائر حتى الآن تعددت انطباعاتهم لكنهم اتحدوا على أحقية المعرض في السبق للإشارة لهذا العلم القديم قدم ظهور الورق ودور العلماء السعوديين في دعم المعرفة البشرية بصورة عامة ودعم نشر الشريعة الإسلامية بصفة خاصة.المعرض ما زال دعوة مفتوحة لمزيد من الشراكة بين الدارة وكل المجتمع لحفظ المصادر التاريخية ومنها ما خط باليد من المؤلفات والعناية بها وصيانتها والمداومة عليها بالبحث والدرس فهكذا هي الأمم المتقدمة لا تترك مآثرها في مهب الريح والنسيان مهما بعد بها التحضر والتقدم.