لا شك أن مشكلة سيول مدينة جدة لفتت انتباه الجميع وخصوصاً أنها تكررت نسأل الله العلي العظيم أن يرحم من توفوا ويجعلهم من الشهداء. وما حدث هو مشكلة تخطيطية في المقام الأول فالمدن التي تقع على سواحل البحار لا تواجه عادة مشاكل تصريف سيول لأن الطبيعة التي خلقها الله وتكونت على مدى آلاف السنين ساهمت في تكون الأودية والشعاب التي تصرف تلك السيول إلى حوضها النهائي وهو البحر في هذه الحالة.
ومن الطبيعي أن تكون هناك ردود فعل لحل تلك المشاكل التخطيطية مثل مشكلة السيول لكن الأهم هو معرفة أسباب المشكلة وحلها من الجذور. فالتعامل مع أعراض تلك المشاكل هو ضرورة ولكن لن يساهم في الحل بعيد المدى. وعلى الرغم من أن الحل الآني لمشكلة السيول قد يكون حل هندسي إلا أن الحل طويل الأجل هو حل تخطيطي. إن طريقة إدارة المدن الحالية ساهمت بشكل أو بآخر بظهور العديد من تلك المشاكل... فعلى الرغم من أن المدن الحديثة تتجه نحو اللا مركزية وتشتيت صناعة القرار ما زالت مدننا تسير بالاتجاه الآخر فأصبح لدينا أمانات مناطق بدلاً من أمانات المدن. أي أن المسئوليات التي تقع على كاهل أمناء المدن قد كبرت وتوسّعت وهذا ليس هو الحل المناسب للمدن الكبرى خصوصاً المليونية منها. إن غياب مجالس بلدية فعالة وتقسيم المدن الكبرى إلى مدن أصغر سيساهم في تفاقم العديد من المشاكل بما فيها مشاكل السيول.
نجزم أن أي مجلس بلدي فعّال ممثل بأعضاء مختصين ومطلعين سيساعد مسئولي المدن على تجنب الأخطاء التخطيطية وسيريحهم من كثير من الضغوط الاجتماعية التي تواجههم بشكل يومي. فعلى سبيل المثال تغيير استخدامات الأراضي في معظم مدن العالم الأول لا تتم إلا باطلاع وموافقة المجلس البلدي ولن يوافق مجلس بلدي لديه حد أدنى من الخبرة والعلم التخطيطي على تحويل وادي أو شعيب إلى مناطق سكنية أو أي استخدامات أخرى تؤدي إلى خلل في التوزيع الطبيعي لشبكة السيول. بل نجزم أن أي مسئول بلدي سيتردد كثيراً على الموافقة على تغيير استخدامات الأودية والشعاب إلى أغراض أخرى إذا كان هناك مجلس بلدي مستقل وشفاف ويمثل أداة رقابية تحظى باحترام الجميع.
إن المخرج الأمثل للعديد من مشاكل مدننا هو التحول إلى اللا مركزية في إدارة المدن وتقوية المجالس البلدية فتصبح الأمانات والبلديات والمجالس البلدية مسئولة أمام ولي الأمر لأي قرار ينتج عنها ويؤدي إلى أضرار كبيرة في الأرواح والممتلكات. وسيساهم ذلك في تخفيف العبء عن الدولة وتحميلها أخطاء تخطيطية تسبب فيها آخرون. كما سيساهم ذلك في بناء قاعدة من الخبرات من خلال مداولات المجالس البلدية كي تستفيد منها الأجيال القادمة. فقد قال المفكر الفرنسي دو توكويل عند ما زار أمريكا قبل قرنين من الزمن ورأى المجالس البلدية والنقاشات فيها: إن المجالس البلدية واجتماعاتها هي للحرية وتطوير المدن بمثابة العلوم الأساسية (أي ما يدرسه طلبة المراحل الابتدائية) لمن أراد تعلم العلوم الأخرى (أي من لم يدرس المراحل الابتدائية فلن يستطيع فهم علوم المدارس المتوسطة والثانوية)... وهذا ينطبق إلى حد كبير على المدن الحديثة.