الثورة الشعبية المصرية التي أجبرت الرئيس حسني مبارك على التنحي عن منصبه قبل إكمال ولايته الخامسة بعد 18 يوماً من المظاهرات الجماهيرية المليونية، لم تفاجئ المراقبين السياسيين أو المفكرين المدركين لتحولات المجتمعات، بقدر ما شكلت صدمة فكرية لمجموعة من المثقفين العرب، فقدوا بسببها توازنهم الفكري، وتاهت بوصلة رؤيتهم السياسية
بين القراءة غير الواعية لحقائق التاريخ، والفهم المغلوط لمجريات الواقع المعاصر، حتى أني تمنيت -مشفقاً- لو أنهم اكتفوا بتحليلاتهم السياسية للأحداث المصرية في سوق الإعلام الرائجة، أو أنهم حاولوا استشراف مستقبل أرض الكنانة بعد رحيل مبارك من باب التوقعات السياسية التي صارت كالتوقعات المناخية لكثرة مُطلقيها، ولم يتورطوا في ذلك (التشبيه التخريفي) بين الثورة المصرية (الشعبية) ضد الرئيس حسني مبارك العام الجاري 1432هـ- (2011م)، وبين فتنة ثوار السبئية ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، التي وقعت عام 35 هـ.
وقبل تبيان أوجه القصور الفاضحة لمنطق ذلك التشبيه المتهافت، أشير إلى أنها تتجاوز البون الشاسع بين الشخصيتين المحوريتين في هذا المقال، فمع الاعتبار لشخص مبارك عند محبيه ومؤيديه، إلا أنه لا يمكن لعاقلٍ فضلاً عن مسلم أن يضعهما في إطار ٍواحد ولو من باب إمكانية تشابه الظروف، لأن عثمان بن عفان رضي الله عنه فوق مستوى الشبهات في شخصه الكريم، أو النقد السياسي لفترة خلافته الراشدة، فعلى المستوى الشخصي يكفي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، نظير مواقفه الفريدة في خدمة الإسلام كبئر رومة وتجهيز جيش العسرة (غزوة تبوك)، كما أن خلافته مشمولة بشهادة الرسول صلى الله عليه وسلم المشهورة بحديث (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي)، هذا هو المقياس الحقيقي والمعيار الكوني الصادق، لأن انتقاد خلافة عثمان ولو ليومٍ واحد أو تشبيهها بأنظمة معاصرة هو بمثابة تبني فكر الخوارج والحديث بمنطقهم، الذين أكدوا صحة خلافتي أبي بكر وعمر والسنوات الأولى من خلافة عثمان، وعدم صحة خلافة علي (رضي الله عنهم جميعاً) فبرروا خروج الثوار عليهما.
أما ذلك التشبيه الذي ساقه بعض المثقفين خلال التغطية الإعلامية لأحداث مصر بين الثورة المصرية والفتنة السبئية وكانت دليل سقوطهم المريع بين دار الخليفة وميدان التحرير، فيمكن نقضها من عدة وجوه، خصوصاً أن ذلك التشبيه الفارغ يطعن في تاريخنا بطريقة غير مباشرة، ويُشكك في النموذج المثالي للحكم الإسلامي المتمثل في الخلافة الراشدة، ووجوه نقضه كالتالي:
أولاً.. المسميات التاريخية والتوصيفات السياسية
أول خطأ منهجي سقط فيه أولئك المثقفين أنهم لم يلتزموا مصدراً تاريخياً معتبراً في إطلاق التسميات على الأحداث التاريخية، بحيث يبنوا عليها التشبيه بين ثورة مصر وفتنة السبئية، فكل مصادر التاريخ الإسلامي، ومراجعه المعتبرة تؤكد مسمى (الفتنة) لكل الأحداث التي وقعت قبيل وأثناء وبعد مقتل عثمان رضي الله، بدلالة ما أحدثته من انقسام كبير بين طوائف المسلمين إلى يومنا هذا، ناهيك أن المصادر التاريخية اعتمدت وصف (الفتنة) ارتباطاً بالإشارات النبوية الصريحة حولها، التي جعلت أغلب الصحابة الكرام يعتزلونها فكيف توصف ب(الثورة الشعبية)؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرّف لها تستشرفه، فمن وجد منها ملجأ أو معاذاً فليعذ به)، في المقابل نجد أن الدوائر السياسية، والمؤسسات الإعلامية على المستويين العربي والعالمي قد وصفت المظاهرات المصرية ب(الثورة الشعبية).
ثانياً.. شرعية الخلافة ومرجعية الجمهورية
فات على أصحاب ذلك التشبيه اختلاف النظام السياسي بين الخلافة والجمهورية، بين شرعية خلافة عثمان رضي الله عنه، وبين إشكالية رئاسة مبارك للولاية الخامسة، من حيث قبول المظاهرات الشعبية في النظام الجمهوري ضد الرئيس، ورفض خروج ثوار السبئية لأنها ضد تلك الشرعية، كونها أعمال شقت عصا الطاعة وفرقت الجماعة ونقضت البيعة، وفي هذه الجزئية بالذات يتضح موقف الفكر السلفي المعاصر، الذي يرفض المظاهرات تماماً، لأنها تتعارض مع البيعة المعقودة في عنق كل مسلم تجاه الحاكم، سواءً خليفة أو ملك أو رئيس، بينما هي مقبولة في النظام الجمهوري.
ثالثاً.. حقيقة المتظاهرين والثوار ومطالبهم
يمكن تبين حجم خطأ أولئك المثقفين في التشبيه بين فتنة السبئية والثورة المصرية، من خلال تسليط الضوء على المكون الرئيس لجماهير المظاهرات المصرية في مقابل جماهير ثوار الفتنة، فقد حددت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بعد مقتل عثمان هوية ثوار الفتنة بقولها للناس في الحرم: (أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أن عاب على هذا المقتول بالأمس....). إذن هم غوغاء ورعاع الناس ولم يكن بينهم صحابة كرام أو رجال الحل والعقد أو من يعتد بهم بالرأي والعلم. ولم يكن لهم مطالب محددة في البداية، إنما شكاوى من بعض الولاة إلى أن تطور الأمر إلى المطالبة بعزل الخليفة الشرعي. قارن ذلك مع جماهير الثورة المصرية، الذين يشكلون شعباً واحداً فيهم كل شرائح المجتمع، وقد خرجوا بمظاهرات سلمية وفق ما تسمح به الديمقراطية المصرية، وكان مطلبهم واضحاً ومحدداً وهو تغيير النظام ورحيل الرئيس، بحجة أن الأوضاع السيئة التي تعيشها مصر هي نتاج لسياسة هذا النظام منذ 30 عاماً.
رابعاً.. سياق الأحداث ومآلاتها
سياق الأحداث بالنسبة لفتنة ثوار السبئية، ولثورة الجماهير المصرية يعكس اختلافاً كبيراً بين الحالتين، ما ينقض ذلك التشبيه من أساسه، وينزع عنه صواب المنطق، فأولئك الثوار لم يعلنوها ثورة عامة مؤيدة من جماهير الأمة في الأمصار لخلع الخليفة عثمان رضي الله عنه، إنما شكاوى ضد بعض الولاة عالجها الخليفة بما يرضيهم، إلا أنهم عادوا بأمور أخرى تتعلق بالخليفة ذاته، مع ذلك تحدث إليهم أمام الناس وفند أكاذيبهم ورد شبهاتهم، وعفا عنهم وردهم إلى بلادهم دون أن ُيمسوا بأذى، غير أنهم عادوا إلى المدينة في الرواية المشهورة، ما يشير إلى نسيج الفتنة الذي تمت حياكته حول شرعية الخليفة، حتى أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه كشف ذلك وفضح اتفاقهم المبيت (إنه أمر دُبرّ بليل)، فكان أن طالبوا بعزل عثمان، وعندما رفض الخليفة ذلك حاصروا بيته وقطعوا عنه الماء والكلى إلى أن ارتكبوا جرمهم العظيم، وقتلوه رضي الله عنه في الشهر الحرام والبلد الحرام، بينما نجد أن شباب مصر الذين خرجوا في تلك المظاهرات منذ اندلاعها لم يرتكبوا جرماً أو يعبثوا بأمناً، بل حموا مكتسبات مصر، وأمنّوا البيوت والممتلكات، رغم المصادمات والاستفزازات الأمنية. مآلات فتنة السبئية لا زالت الأمة تعيش آثارها المذهبية، ومآلات الثورة المصرية تكريس للديمقراطية الحقيقية.