تعيش إيران سلسلة مفارقات مؤلمة، ترجع إلى الهوة التي تفصل طموحات قادتها عن قدرات شعوبها، سواء علاقاتهم مع الداخل أم في مواقفهم من الخارج.
وكان قائد سابق في الحرس الثوري قد صرح ذات يوم من أواسط التسعينات من القرن الماضي بأن هناك فاصلاً جدياً بين النظام والأجيال الشابة، يخشى أن يتحول إلى خندق عميق سيكون من الصعب أكثر فأكثر اجتيازه، وقال بصراحة: إن القيادة قد ارتأت اختيار رجل إصلاحي لردم هذا الخندق، كي لا يتواصل اغتراب أهل النظام عن شعبهم عامة، وجيل المستقبل خاصة إلى عداء مستحكم، وأضاف: إن اسم هذا الرجل هو محمد خاتمي.
لن أتوقف عند واقعة أن النظام اختار رئيساً للجمهورية قبل أن ينتخبه الشعب، ولم أشرح معنى ذلك بالنسبة إلى الديموقراطية التي يكثرون من الغناء لها والتغني بمحاسنها في طهران. سأقول فقط إن خاتمي ما لبث أن سقط، ليس لأنه فشل، بل لأن القوى الرئيسة، أي المحافظة، الممسكة بأجهزة السلطة الفاعلة، أدركت مخاطر الإصلاح على نظام لا يقبل الإصلاح، فقرّرت إقالته، مثلما قرّرت تعيينه، وأتت برجل شبه مغمور، لكنه يشبهها، اسمه أحمدي نجاد، وجعلته يهزم واحداً من كبار أركان الثورة هو الشيخ هاشمي رفسنجاني، الذي كان قبل ذلك رئيساً لبلاده طيلة دورتين رئاسيتين.
مع مجيء نجاد، توقفت سياسة مصالحة الداخل الإيراني، وحل محلها موقف إستراتيجي قام على تحييده وإخراجه من السياسة والشأن العام، بالقوة من جهة والبرامج القومية المتطرفة من جهة أخرى، التي عبّرت عن نفسها على خير وجه في ميدانين: اختراق العالم العربي بأي ثمن، وإضعافه ولعب أوراقه بعد وضع اليد عليها ومصادرتها, وإغراقه بالمشكلات المذهبية والمزايدات السياسية، وخاصة في فلسطين، وزجه في معارك إيرانية التي لا ناقة ولا جمل له فيها، والجري وراء سياسات تسلح مكثفة تتوج بالسلاح النووي، ليس من أجل هزيمة الأعداء، الأميركيين والصهاينة، بل لمفاوضتهم على موضوع رئيس هو: تكبير حصة إيران في عموم الإقليم وخاصة منه المجال العربي، وتالياً لتصغير حصة ودور العرب إلى أطول فترة ممكنة.
بذلك أدخلت إيران نفسها في عالم المفارقات الصعبة، التي لا حل لها، وتجلت في مضمارين: أولهما أنها لم تتمكن من احتجاز العرب وأخذ دورهم وتهميشهم، لأن ذلك - وهنا المفارقة - أكبر بكثير من قدراتها، مهما ضخمتها وبالغت فيها، ومهما تسلحت وعبأت واردها. يشبه موقف إيران حيال العرب موقف طفل وليد يحاول أن يمسك بيده الصغيرة بطيخة جد كبيرة. إنه قد يحركها قليلاً بمنتهى الصعوبة، لكنه لن يتمكّن من حملها مهما فعل وحاول. ما الحل الذي خطر للقيادة الإيرانية أمام هذه المفارقة - المشكلة؟ لقد فكرت بحل خارجي، عقد في الواقع مشكلتها وأبعدها عن حلها، عندما قرّرت اختراق العالم العربي من داخله: باستغلال مشكلاته ومكوناته وعناصره وعجزه وضعفه... إلخ، وتفجر بعض مناطقه واستنزافه أكثر فأكثر، إلى أن يستسلم في نهاية الأمر. أذكّر في هذا السياق بتصريح غريب عجيب، يكاد لا يصدق، لمتقي، وزير الخارجية الذي طرده نجاد من منصبه وهو في جولة إفريقية قبل أسابيع قليلة، فقد قال خلال أحداث اليمن: إن بلاده لن تسمح بأي تدخل خارجي في شؤون اليمن! بكلام آخر: لم تسمح إيران بتدخل العرب في أزمة اليمن! في هذا الحل الخارجي، كان من الضروري إيهام الشعب الإيراني بأن العالم يقف ضده، لمجرد أنه يقوم بثورة يحسده الجميع عليها، تشق له الطريق إلى الأمام، رغم ممانعة ومقاومة العالم - العدو بأسره. إنها مرة أخرى سذاجة الجلاّد والضحية، الذي يقاتل حتى الاستشهاد، لكنه لا يستسلم، مع أنه يخوض معركة يعلم أنها خاسرة منذ البداية!
عاش الشعب الإيراني سنوات عجافاً في ظل هذه الإستراتيجية، وخاصة في حياته اليومية، وبالأخص منها علاقاته مع النظام، الذي تصرف دوماً وكأن لديه بطاقة بيضاء منه تخوّله فعل أي شيء يحلو له - دون أن يأبه له أو يعتد بمواقفه، أو يحسب حساباً لمصالحه ومشاعره -. هكذا، بدل ملاقاة الأجيال الشابة في منتصف الطريق، تم أكثر فأكثر الإمعان في عزلها وملاحقة العناصر الحيّة منها، وخاصة طلبة الجامعات. بينما كانت موارد البلاد تبدد، ومستوى معيشة البشر يتردى، والبطالة تنتشر، وأموال التنمية توجه نحو السلاح، وكذلك عائدات البترول. لا عجب أن خرج الشعب حاملاً غضبه بعد انتخابات الرئاسة التي «فاز» نجاد فيها قبل أن يفرز أي أحد صناديق الاقتراع، بتزكية من الولي الفقيه، الذي قال قبل الانتخابات بشهر إن إيران ستنتخب «رجلاً بسيطاً لا يضع ربطة عنق ولا يعيش في قصر». ولا عجب أن إحدى الليالي شهدت نزول 13 مليون إيراني إلى الشوارع، احتجاجاً على ما أسموه تزوير الانتخابات ونجاح نجاد. لا عجب أخيراً أن النظام رد على هؤلاء بالرصاص والاغتيالات والسجون والاغتصاب والقتل، ولم يدعهم إلى حوار ومكاشفة ومصالحة، باعتبار أن زمن الحوار وردم الخنادق مضى وانقضى مع ما أسماه جنرال آخر من الحرس الثوري هو محسن رضائي «فشل» خاتمي. هنا، تكمن المفارقة الثانية، التي تجعل النظام يخوض معارك تفوق قدراته في الخارج ضد قوى أكبر وأقوى منه بكثير، بينما هو يقوّض قاعدته الشعبية في الداخل، ويحسبها في دعايته على أعدائه الإمبرياليين والصهاينة، متناسياً أن عدد من ينتمون إليها يقدّر بالملايين!
مشكلة مع العالم، ومشكلة مع العرب، ومشكلة مع الداخل: أي مع جزء لا يستهان به من قيادة الدولة ومؤسساتها، ومع عدد كبير من رجال الدين في قم وغيرها، ومع جماهير شعبية غفيرة، خرجت رغم ما تعرضت له من قمع خلال العام الماضي كي تتظاهر ضد النظام، في جميع مدن إيران على وجه التقريب! هذه هي حصيلة نجاحات التشدد، الذي تقرّر اعتماده بعد إفشال خاتمي والمجيء بنجاد، وحبل هذه النجاحات على الجرار، كما يقال.
كان نجاد يكرر في تصريحاته وخطبه طيلة العام الماضي أن على الآخرين، أي خصوم إيران، أن يغيّروا سياساتهم, كي يأخذوا نجاحات بلاده دليلاً يرسمون في ضوئه مواقفهم ويحددون مصالحهم، التي يجب أن تكون تراجعية بالضرورة، ما دامت إيران قد هزمتهم. واليوم: وبعد مظاهرات إيران ضد النظام، وما تشهده المنطقة من تطورات ستفضي حتماً إلى إخراج إيران من عالم العرب، يطرح نفسه السؤال الحقيقي الوحيد: إلى متى سيستطيع نجاد ونظامه العيش مع المفارقات الإيرانية المحزنة وفيها؟ وهل يعقل أن تكون النخب الحاكمة في طهران قد قرّرت حقاً متابعة السير وراء سياسات فاشلة وهي مغمضة العينين، مع أنها تأخذها بمنتهى الوضوح إلى الهاوية؟