حين تمدد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه وأرضاه - بعد أن أنهكه التعب وهو يجول في شوارع المدينة سعياً للاطمئنان على أحوال رعيته، دونما حراسة مشددة ولا رقابة مسبقة، وقف عليه رجل أجنبي فقال قولته المشهورة «عدلتَ فأمنتَ فنمتَ يا عمرُ» التي أخذ منها الشاعر بيته المعروف:
أمنتَ لما أقمتَ العدلَ بينهموا
فنمتَ فيهم قرير العين هانيها
بالرغم من أن كل مطلع على التاريخ الإسلامي يعلم علم اليقين أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعد مثالاً يحتذى وأنموذجاً يقتدى في العدالة الاجتماعية، ولست بصدد إثبات ذلك بالشواهد؛ لأنها أوضح من أن تذكر، إلا أن حياة هذا الخليفة الراشد انتهت بشهادته وهو قائم يصلي في محراب المسجد النبوي على يدي الغادر الخبيث أبي لؤلؤة المجوسي، وإذا كانت دوافعه عقائدية إلا أن ذلك المشهد يؤكد أن «رضا الناس غاية لا تدرك»، وطالما أن هذه الحقيقة تظل ماثلة في كل المجتمعات الإنسانية على مر العصور فمهما بذلت الحكومات ستظل مقصرة في نظر الشعوب، وبطبيعة الحال على تفاوت كبير في مصداقيته من يدعي عدم الرضا؛ حيث تحظى بعض المجتمعات من حكوماتها بتنظيم العمل المؤسسي وتوفير العدالة الاجتماعية وضمان عدم استخدام السلطة في مكاسب شخصية والمساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات، كل بحسب دوره قدر المستطاع؛ لأن الكمال محال، ثم يبدأ المؤشر بالهبوط تدنياً في مجتمعات أخرى حتى تكاد تصل إلى النسب الدنيا.
ولهذا يصدق القول: إن المناصب القيادية العليا في الدول هي مغرم وليست مغنماً، ولا تكون تشريفاً إلا إذا قام صاحبها بالتكليف المناط به، وما أصعب الأداء في ظل الحراك الاجتماعي والسياسي المتغير، وفي ظل الثورة الصناعية والحضارية التي لا تكاد تنهي إنجازاً حضارياً يفرح به الناس حتى تبدأ في رسم تصور لإنجاز جديد يجعل من سابقه متخلفاً.
وفي ظل التواصل الإنساني حيث أصبح العالم كله مجتمعاً واحداً مترامي الأطراف يجول به الناس ليروا ويقارنوا أوضاعهم وأحوالهم بأحوال الآخرين.. وفي ظل العمل الإعلامي الكبير الذي بدأ ينقل أدق التفاصيل في أحداث الدنيا ويتيح للناس التعبير الحُرّ عن مشاعرهم وآرائهم فيما يدور حولهم، ينبغي ألا يُغيّب ذلك عن مبادئنا التي ننطلق منها عند الرغبة في اتخاذ المواقف أيًّا كانت وكانت مسبباتها؛ فلكل مجتمع أطره الاجتماعية التي يدور في فلكها، وثوابته التي ينطلق منها، وخطوطه الحمراء التي لا يتجاوزها. ومن أهم تلك المبادئ التي يتوجب الحفاظ عليها والعناية عند الأخذ بها ما يكون تأثيره عاماً سلباً وإيجاباً لتجنب النتائج المعتلة التي تقدح الشرارة الأولى للفتن، ومتى استشرت نار الفتنة فما أصعب إخمادها، فلئن يحرم الناس بعض مطالبهم التي تمثل رفاهاً اجتماعياً إلى حين خير لهم من أن يحرموا الأمن في الأوطان وتفتح أبواب الصراعات الداخلية فتحرق الأخضر واليابس، كما أن أسلوب المطالبات له أثر في إجابتها والنظر إليها باحترام أو بازدراء، إضافة إلى أهمية التوقيت الذي يعطي انطباعاً عن تصنيف مشاعر من يتقدم بالمطالب بين المصداقية والانتهازية؛ لأن في التوقيت والأسلوب ما قد يهيج الرعاع ويثير الغوغائية فتطيش التصرفات لتكون حاجتنا إلى تجاوز آثارها أكبر من حاجتنا إلى المطلب الأساسي الذي كنا نطمح إليه، ولربما كان ندم من تولى كبر هذه العملية أشد من غيره متى ما كان صادقاً في طرحه وتوجهاته.
ليس ثمة مجتمع لا يطمح أفراده إلى الأفضل، وليس ثمة قادة لا يمكنهم فعل الأفضل، ولكن على الطرفين أن يسلكا سبيل المحسنين في الأداء؛ فيحسن الناس أسلوب مطالبهم ويكونوا واقعيين فيها، في حين ينظر القادة إلى تلك المطالب باحترام وعناية يكفلان تحقيق المتاح منها كأمر واجب الأداء ليس فيه منّة ولا استعلاء، وفي حصول ذلك من الطرفين ما يحفظ للبلاد أمنها واستقرارها، ويوحد الجهود لتحقيق المزيد من الرفاه الاجتماعي والخير العميم والحفاظ على المقاصد الشرعية للحياة الكريمة، وأجمل من ذلك أن تسعى الحكومات إلى دراسة واقعية لأحوالِ مجتمعاتها وتطلعاتِ شعوبها، أعني أن يهتم كل مسؤول بعمله، ويفكر في تحقيق القيام بمهمته من دون ملاحقة أو مطالبة.
ثم الاعتناء بتحقيق تلك الطموحات المشروعة ببادرة استباقية منها قبل أن تحتاج إلى جهود مضاعفة لتلبية المزيد من الاحتياجات التي متى انطلقت لا تقف.. وبالله التوفيق.
المستشار الاجتماعي