إذا كنا نتحدث عن ارتفاع سقف الطرح الإعلامي - لدينا -، فإن من أهم مرتكزات الإعلام في الوقت الحاضر، هو: تبني حراك المجتمع، والحفاظ على المواطنة، وحقوقها، وتوعية - كافة - شرائح المجتمع لهذه الأهداف السامية، والنبيلة. - إضافة - إلى تحديد مكامن الانحراف، حتى لا نقف عاجزين أمام تظلمات الناس، من انحراف مسارات
قضاياهم. وهذا ما عناه وزير العدل - الدكتور - محمد العيسى - قبل أيام - في « ملتقى القضاء والإعلام « من ضرورة تجسيد العلاقة بين الإعلام والقضاء، ومنحها حرية مسؤولية منضبطة، تحت رعاية وزارة الثقافة والإعلام، والتأكيد على أن: « القضاء يحفل بالإعلام ؛ لإسهامه المتميز في نشر الثقافة الحقوقية، ولأنه جهاز رقابي يطلع بمسئوليته وفق ضوابط موضوعية. ويتميز الإعلام بقدرته على الرجوع إلى الحق، عندما يستولي عليه ما يستولي على البشر من فوات، وإيراد. وإذا لم نحفل بإعلامنا، فإننا نفرغه من محتواه «.
ليس من نافلة القول التأكيد على أن: مما يكفل حقوق الناس، ويحفظها، وجود دوائر لتدقيق الأحكام القضائية، وأخرى تنظيمية، تضبط شؤون القضاة، وتراقب أداءهم، وتحاسب المقصر منهم. وقد كفل النظام لأصحاب الحقوق حرية مخاطبة وزارة العدل، والمجلس الأعلى للقضاء، والتظلم - لديها - ضد تصرفات القضاة. كما أن ولاة الأمر - وفقهم الله -، كفلوا للناس حرية التعبير، والنشر في وسائل الإعلام، ضمن ضوابط النشر المعروفة. وليس أحد من موظفي الدولة، وإداراتها، مستثنى من توجيه النقد له، أو الاعتراض على قراراته في وسائل النشر المعلنة. بل لا يكاد يمر يوم، لم نقرأ في صحفنا نقدا، أو اعتراضا على وزارة، أو إدارة، ما دام الناشر ملتزما بتوثيق ما يقول. وغني عن القول - أيضا -: إن هناك فرقا شاسعا بين الدين، وأفراد المسلمين، والتعليم وأفراد المعلمين، والطب وأفراد الأطباء، والقضاء الشرعي وأفراد القضاة. فالدين، والتعليم، والطب، والقضاء الشرعي، من القيم الثابتة التي لا يتصور نقدها ؛ أما أفراد المسلمين، والمعلمين، والأطباء، والقضاة، فهم بشر يصيبون ويخطئون، وينتقدون ويقومون، وليس ذلك انتقاصاً للقيم التي ينتمون إليها، وإنما هو محافظة عليها من أن يشوبها سوء تطبيق، يشوه صفاءها، حتى لا تظلم القيم الثابتة، ولا يعمم الخطأ على جميع المنتمين لها، وإنما يتحمل كلٌ ما جنت يداه، لقوله - تعالى - « وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى «.
إن التأكيد على: حظر التناول الإعلامي لما تتولاه سلطات التحقيق، أو المحكمة، بطريقة تستهدف تعبئة الرأي العام ضد من يتناولهم التحقيق، أو المحاكمة قبل صدورحكم القضاء. نتفق على أنه أمر لا يصح. وفي المقابل: يجب أن يتدخل الإعلام في تلك القضايا ؛ من أجل تكامل الرؤى مع جهاز القضاء، خدمة للصالح العام. ومن ذلك: ضرورة التفريق بين الحديث عن الواقعة، والحديث عن حكمها، وحرية الوصول إلى المعلومة، وتداولها، - باستثناء - نشر ما له علاقة بحرمة الحياة الخاصة، أو الأسرار الشخصية، وذلك حسب المادة رقم «61»، من نظام المرافعات الشرعية، والتي تنص على التالي: « تكون المرافعة علنية، إلا إذا رأى القاضي من تلقاء نفسه، أو بناء على طلب أحد الخصوم إجراءها سراً، محافظة على النظام، أو مراعاة للآداب العامة، أو لحرمة الأسرة «.
لا أحد ينكر أن الإعلام - اليوم -، يشكل رأيا ضاغطا على الهيئات القضائية في حدود النظام. فهو قادر على تشكيل الوعي العام، ونقل الرأي والرأي الآخر، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن النصوص النظامية التي تحكم العلاقة بين القضاء والإعلام واضحة، و تتسم بالمرونة والسعة، أخذا في الاعتبار « مبدأ علانية الجلسات « الذي سبق الإشارة إليه، حيث يكفل للجميع الاطلاع على سير المرافعة، وهو ما يجيز التحدث عنها، وإلا كان النص الوارد بشأن العلانية، لا معنى له. فمثل هذه الإجراءات، تستطيع أن تكشف التجاوزات إن وجدت، ومن ثم تعزيز المساءلة والمحاسبة، وإثراء الثقافة العدلية لدى أفراد المجتمع. - ولذا - فإن مقولة: « لا يجوز التناول الإعلامي في التعليق على الأحكام القضائية «، ليست على إطلاقها، وليس لها رصيد من المؤيد الموضوعي، أو التنظيمي. فالأحكام القضائية، ليست نصوصا قرآنية. والقضاة في نهاية المطاف، هم بشر يصيبون، ويخطئون. وطالما التزم الناقد بالآداب، والقواعد التي يجب اتباعها، يكون التعليق على تلك الأحكام القضائية، جائزا شرعا، ونظاما، و بشكل عام، ومطلق، دون تخصيص، أو تقييد، أو استثناء، ودون أي تطاول، أو تجريح لهيبة القضاء، أو قضاتها بالتجريح، والسب في من صدر الحكم عنهم، فالأصل هو الإباحة. ويكفي أن مصدرا مسؤولا في وزارة العدل، أوضح - قبل أيام -: أن ما ورد بهذا الصدد، من منع نشر القضايا المنظورة وفق نظام المطبوعات والنشر، يتعين فهمه وفقا لمقاصد النظام الظاهرة التي لا تحتاج لتأويل، ولا تفسير. فالنصوص تؤخذ بمجموعها، وصولاً لأهدافها الواضحة بتجرد تام، مشيراَ إلى أن هذا التوجه، معمول به في العديد من الدول، « كالولايات المتحدة الأمريكية، والسويد، والنمسا «، حيث يرون ترجيح المصلحة في فتح المجال للنشر، بحيث لا يتم المعاقبة على نشر المعلومات القضائية السرية، ما لم ترجع سريتها إلى سبب آخر، غير كونها قضائية. بل وصل الأمر في بعض الدول، مثل: « إسبانيا « إلى العمل على أنه لا يمكن استبعاد ممثلي وسائل الإعلام من حضور المحاكمات، لأي سبب، باعتبار أن واجب الصحافة، هو: إعلام الجمهور بمجريات الأحداث. مشيرا إلى أن الوزارة قد راعت في التصاميم المعدة لمباني المحاكم الجديدة احتواءها على قاعات محاكمة واسعة ومهيأة، وذلك تفعيلا ؛ لإمكانية حضور جلسات التقاضي لغير المعنيين، تطبيقاً للنص النظامي المتعلق بعلانية الجلسات.
إن تحقيق مبدأ العلاقة في إطارحرية الإعلام، بعيدا عن دائرة الشبهات، ودون نيل من هيبة القضاء، يحتاج إلى أطر واضحة ؛ لاستمرارية عمل سلطة الإعلام، وتفعيله، باعتباره من سلطات الشخصيات الاعتبارية الخاصة، وذلك عبر الطرح الإعلامي الهادف، والإيجابي المتوازن. فهذا التفاعل، سيكون خير حافز في ترسيخ مفاهيم العدالة، وإذكاء روح الحياد في العمل الإعلامي. وحتى يؤدي الإعلام دوره الفاعل، المنتظر منه ؛ للإسهام في المرحلة التي يجب أن يكون عليها، وإيصال الحقيقة للمتلقي في الوقت المناسب، وكشف الممارسات الخاطئة، والتصدي لها.كم نحن بحاجة أكثر مما مضى، إلى ضبط العلاقة بين الإعلام، والقضاء. والمساهمة في وضع دراسات منتظمة خاصة، بنشر أهمية هذه العلاقة، وذلك، في حدود عدم الوقوع في دائرة التشكيك في موضوعية القضاء، أو هيبة القضاة. ودون الاشتغال بتوجيه الرأي العام ؛ لخدمة أغراض أخرى. وقد أسعدني تصريح - المدير العام لإدارة الإعلام والنشر - حمد الحوشان - ذات مرة -، فيما يتعلق بالمواد الصحافية، التي تتناول شأنا عدليا، مثل: حكم شرعي، أو إجراء إداري: « بأن الوزارة يسعدها، أن يكون الطرح متضمنا معلومات موثقة، وصحيحة، ومن مصادرها «. مشددا على: « تفهم العمل الإعلامي، ومشوقات السبق الصحافي، والتفرد بالنشر، والعثور على مصدر مدرك بالجوانب الشرعية، أو النظامية، حتى لا يتسبب ذلك، في حدوث إشكالات عدة «.
drsasq@gmail.c