بعد أسبوع دام في مدن ليبية سقط فيها الأبرياء بما فيهم الأطفال، أفاق الغرب من غيبوبته السياسية، وتخلص من نفاقه الدولي الذي يُبديه دوماً تجاه الدول المرتبطة بمصالحه، ولكن بفترة متأخرة عما جرى في تونس ومصر، وبدأ هذا الغرب (الانتقائي) يُدين إجرام نظام القذافي في حق الشعب الليبي، وراح يدرس القيام بإجراءات وعقوبات
ضد هذا النظام الدموي، الذي فقد شرعيته إلا من المرتزقة الذين انكشفوا تحت ضربات هذا الشعب الأبي، التائق للحرية، المتطلع للكرامة والحياة الكريمة، والباحث عن تقرير حقوقه الإنسانية، وتحديد واجباته الوطنية في إطار دولة القانون والدستور.
لقد كشفت ثورة الشعب الليبي ضد صاحب الثورة الزائفة (الفاتح من سبتمبر) حجم الانتقائية، التي تمارسها الدول الغربية في تعاطيه مع القضايا الدولية والأحداث الكبرى العالمية، خاصةً في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي، ففي القضية الليبية لم يرتفع سقف هذا التعاطي إلا بعد أن أيقنت أن إمدادات النفط لن تتأثر بالوضع الليبي، خاصةً في ظل هاجس الخوف من إقدام نظام القذافي على إحراق آبار النفط كما هدد بذلك زعيمه الفاشي. بينما لم تتورع هذه الدول (المتحضرة) عن أن تُجبر مجلس الأمن على فرض عقوبات قاسية ضد الشعب الليبي عام 1992م، بعد اتهام ليبيا بتفجير طائرة ركاب أميركية فوق قرية لوكربي عام 1988م، ولأن هذه العقوبات لم تؤثر سلباً بسبب خرقها العلني من قبل دول الوحدة الإفريقية، قبلت بريطانيا وأميركا بمحاكمة الليبيين المتهمين بالتفجير في بلد محايد، كما دفع نظام القذافي لاحقاً تعويضات مالية كبيرة لأسر الضحايا من أجل رفع العقوبات عن ليبيا عام 2003م باعتبارها مسؤولة عن ذلك التفجير.
هكذا هي حضارة الغرب المادية! وهكذا هي قيمه العليا، انتقائية بين الإنسان الغربي وإنسان العوالم الأخرى، وبالذات الإنسان العربي المسلم، في الكرامة والحقوق والحياة، ففي وسط (بنغازي) قتل الأبرياء وأريقت الدماء كما حدث فوق (لوكربي)، لكن ردود الفعل الغربية جاءت بطيئة ومختلفة، رغم أن دماء (بنغازي) كانت مصورة ببث مباشر على كل شاشات الدنيا، بينما (لوكربي) ما زالت لغزاً من حيث المسؤول الرئيس عن هذه الجريمة.
مواقف الغرب وقرارات حكوماتها ليست جديدة أو مفاجئة، بل كانت متوقعة من حيث السلبية بدلالة ما جرى في العراق، عندما جيّش الدنيا لغزوه من أجل إسقاط صدام ومنح العراقيين رحيق الحرية، رغم أن هذا الغرب (الميكيافيلي) كان من الداعمين لصدام ولم يكشف عن جرائمه في حلبجة العراقية إلا بعد أن قرر استبداله، فكانت النتيجة مواطناً عراقياً حراً في وطن معتقل فقد أكثر من مليون قتيل دون أن يذوق طعم الحرية الحقيقية أو يمارس الديمقراطية الفعلية. وقس على ذلك انتقائية الغرب في قضية الشيشان وفق (ترمومتر) المصالح مع روسيا، أو قضية (كشمير) مع الهند، مقابل تيمور الشرقية مع إندونيسيا، ناهيك عن موقف الغرب إزاء جرائم إسرائيل في فلسطين ولبنان، لدرجة الإمداد العسكري والدعم السياسي والتضليل الإعلامي. كل ذلك يؤكد أن المراهنة على المواقف الغربية (خطأ إستراتيجي) يدفع ثمنه العرب والمسلمين باستمرار، ولكن عندما تخلو عن هذا اليانصيب الفاسد، كان عبورهم إلى مصاف الشعوب الحرة مطلع العام الجاري، ففاجأوا العالم بثورات شعبية نقية من شوائب العسكر والأحزاب كما في تونس ومصر وليبيا، التي امتازت بالفداء والتنظيم وحفظ مصالح الوطن أمام بلطجة أنظمة تلك البلدان.