ليس عيباً أن يبكي الرجل، لكنّ دمعته غالية، يبكي الرجل لحظة عجزه، ولحظة قهره، ولحظة هوانه على الناس، يبكي فرحاً، ويبكي تزلفاً. في التسعينيات من القرن الميلادي الماضي بكى الشيخ (جابر الأحمد الصباح) أمير دولة الكويت أمام الأمم المتحدة حين غُدر بدولته من جارته (العراق)، بكى الزعيم الفلسطيني الراحل (ياسر عرفات) أكثر من مرة هناك، وبكى مندوب العراق في الأمم المتحدة (محمد الدوري) في نيويورك حين سقطت (بغداد) على يد قوات التحالف الدولي، وبكى هذه الأيام في المكان ذاته مندوب (ليبيا) في الأمم المتحدة وهو يرى بلاده تطحنها آلات (معمر القذافي) ومرتزقته، ومع هذه الكوكبة التي بكت بكت كذلك أمام (الكاميرات) (رغد) ابنة الزعيم العراقي السابق (صدام حسين) وهي ترى والدها في الأسر. بكت (رغد) وكان بكاؤها متفرداً أمام الجماهير العربية، بكى البعض لجمالها، أو لمالها، أو لحسبها، أو لنسبها، أو لجاهها، أو تعاطفاً مع هذا الجنس، لا أدري في الواقع عن السر في ذلك التفاعل معها دون غيرها؟ المتفق عليه أن جميع هؤلاء بكوا، لكن خارج الوطن. بكوا استجداء وقهراً دون أن يلتفتوا إلى مواطن النخوة العربية، أو أن يستنجدوا بسلالتهم، وهناك هو موضع البكاء المخزي.
بكاء شاهدته وشاهده غيري، لكن لا أدري مَنْ من هؤلاء بكى متعلقاً بأستار الكعبة؟ أو ناجى ربه في هزيع الليل، وتحت جنح الظلام؛ كي يخفف من كربته، ومحنته، ومصيبته؟
البكاء هناك (خارج الوطن) مثار استهجان من الشاعر العربي:
لا مجد للعربِ ما دامت أكفهمُ
في كل أمرٍ تنادي هيئة الأمم؟
قلائل هم أولئك الزعماء الذين بكوا مقارنة بأعداد الأفراد من الشعوب الذين سحقوا، وشرّدوا، ويُتِّم أبناؤهم، واستبيحت أموالهم. بكت الشعوب زرافات ووحداناً، وانكفؤوا على ذواتهم، ولم يسمح لهم بالتعبير حتى بالبكاء أمام الإعلام، ومن سمح له بذلك كان ذلك من باب الإهانة، والتنكيل، والتشفي.
(من التراث)
* التاريخ يعيد نفسه، بكى (المعتمد بن عباد) في الأندلس وهو يرى بناته حين قدمن للسلام عليه أيام العيد في سجن (أغمات)، بكى وهو يرى ما أصابهن من هوان بعد عز، ومذلة بعد المجد. انكسر، بكى وهو يراهنّ في ثيابٍ رثة، تبدو عليهنّ آثار الفاقة والفقر، رغم التجلّد منهن والتماسك أمام والدهن المغلوب على أمره، بكت شاعريته، لتقول:
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهنّ حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين، والأقدام حافيةٌ
كأنها لم تطأ مسكا وكافورا
المعتمد وزوجته (اعتماد الرميكية) لم يجد هو وإياها من منقذ يخفف عنهما وقع المأساة سوى الموت، ماتا أسى وحسرة. مات (المعتمد)، وسقطت دولته، وانهارت من ورائه حضارة كاملة. ولم يكن المجتمع قديماً وحديثاً بمنأى عن الأحداث كما يتصور البعض، بل كان هو المتضرر الأول، ولم يسلم من حالات التهجير، والتفكك، والقتل، والتشريد، والتنكيل، وسلب ثرواته، ومصادرة حقوقه وأمواله، فهو شريك بالسقوط، شريك في المأساة، فهل يعي ذلك دعاة الثورات غير المبررة، والناعقين خلفهم؟