أخشى على الأمة العرب من الموت والفناء، فأنا لا أطيق الفناء ولا أحسن الرثاء، لأن الرثاء آخر فنون الكتابة عندي، الأمة العربية الأرض والخصب والطبيعة والكون والتاريخ والحياة والثلج والورد والزرع والنبت والقرميد واللحن صارت منكسرة وحزينة، الأمة العربية المجد والماء والسنبلة والخبز والبرق والبريق...
...تتراءى لها فاجعة وظلمة وعذاب وعتمة، الأمة العربية بدأت تتهيأ لإغلاق أبوابها وشبابيكها لتجلس وحدها في ظلمة الانكسار المخيف، الأمة العربية أصبح لنفسها نواح حزين، ولروحها نشيج ممزق، ولصوتها تراتيل البكاء الطويل، لا تبرير ولا عقلنه يمكن أن تطفئ الإحساس بالذنب تجاه أمة عربية جميلة، التي أفلتت مرات عدة من منجل الطغاة الغرباء المجتث بأعجوبة، هؤلاء الغرباء الباحثين عن نياشين البطولة والمجد المزيف على حسابنا تجد دائما ثغرة جارحة في علاقتهم معنا كأمة حية عريقة، علاقة خلل عميق مختزن في أعماق اللاشعور الكامن في دواخلهم، إن فسحة التفكير الذهني أجهضت في العاطفة المحتبسة التي تكاد تطفر من العينيين الغائمتين بالدمع، الأمة العربية الحب والشعر والتاريخ والمجد والبطولات يريدونها نسيجا اجتماعيا ممزقا وكيانا باهتا، لها صور محن وخذلان ووجع، وأن لا تستعيد عافيتها، وأن لا تقف على قدميها بصلابة، لا يريدونها منتجة ولا متسامحة ولا نخلة عطاء، يريدونها نخلة مهزومة يهزونها لترشق عليهم بثمرها الرطب دون أي اعتبارات أخرى، يريدونها رمادا وعذابا وخرابا، حرائق ودخانا، سواطير وخناجر، صخبا ودوي انفجارات، غيمة تزخ في أعماق العتمة، نموذجا للرعب والضجيج، كسيرة محطمة لا تقوى على الفعل، حفرة تحرشية ناقمة، هزة وجودية مرعبة، انخلاعا قسريا بلا مقاومة، هشة وقابلة للجرح، طبقات هائلة من التراب، أرض قراصنة ونهب وسطو وتمرد وتشرد، لا يريدونها أن تنام بهدوء كالأطفال، أو كحسناء نرجسية حالمة ترفل بفستان الفرح الأبيض، إن أعماقهم المخربة لها تحشرج حين يحاولون تبرير أفعالهم أو تمريرها من خلال اللعب على حقيقة أن فصل البرد في الأمة العربية لم يكن قائما لذا نرى بعضهم وقد انسل إلى عربات الرحيل والنكوص المفاجئ، فلا حاجة لهم بدثار الرفاق القدماء الخانق الثقيل، إنها لعبة الإنكار الثقيل والهروب الكبير، ولأنهم يخافون رد الفعل المفزع الآتي، نرى بعضهم وقد تجرد من ورقة التوت التي مارسها واندس خلفها سنين طوال واختار أعاجيب البهتان وأكاذيب الفعل أن المنظرين للفوضى والمحدثين فيها من الغرباء الأشرار والبعض المزيف من الأمة العربية العابثين بالتراب العربي المقدس والمنتمين والمنبطحين للغرباء في أول حدود الأرض إلى آخر حدود الأرض، لقد خدرونا هؤلاء طويلا ثم انحدروا بقساوة على منحدر التسليم الفاضح المنخذل للآخر، هي هذه تقلباتهم حاضرة لكنها هائلة على مستوى الإنجراح الإنساني النفسي المستديم، وستشهد عليهم الأرض بعد طول بهتان، فالمنقلبون سيرون في انقلاب المشاعر والفعل مصيرهم المقبل بالطريقة نفسها، لكنها الأمة العربية تبقى مثل كوز الزيت والفانوس والتفاح ودالية العنب وعصافير الفجر وسنابل القمح والنخلة والبحر والنهر، هي الأمة العربية باذخة بمكونات الحياة، فردوس بحاله، بخور ماء وورد، في أحضانها يكمن الحب واللاوعي والشعر والحسن والخطاب المميز وستسقط أوراق التوت الرقيق عن عورات المتخاذلين والإمعات وبائعي الكلام الأصفر ممن يسكنون الأبراج العاجية هناك في زوايا الأرض البعيدة، وسيتهاوون بقوة وتتابع كما تهوي الريح بشجيرات البيد اليابسة.