كان مشهداً مؤثراً للرئيس المصري السابق (مبارك) في آخر خطاباته وهو يتحدث بنفس متقطع وروح محطمة ولسان ثقيل ويرمق ببصرٍ أمضّهُ السهر وأعياهُ القلق وأضناهُ الترقب، بعد أن أزف شخوصه وحانت غروب شمسه فبدتْ عيناُه فاترةً بعد أن أدرك أن الزمانَ غير الزمان، والوجوه غير الوجوه، فلا ليل يؤوي ولا نهار يحوي ولا حرس يحمي فانهمرت سحائب الهم في فؤاده، وتفجرت براكين الأسى في روحه وأصابه حزن قضى على جسده الرميمِ وقد أحسسنا جميعا بما في قلبهِ من الحُرقة واللوعة والأسى، قال وقد بلغ الساحل، ووقف على ثنية الوداع: سأضرب بيد من حديد وسأحاسب الفاسدين ، وهو لايملك سلطة حينها حتى على المصور الذي أمامه! وما لايخفى ما لحراس الرئيس من النفوذ مالله به عليم ، مابالكم بالرئيس! فحاله في آخر خطاب له كما وصف الزيات رحمه الله: كالصّوتِ الأصمِّ لا يُرجّعهُ صدىً، وكالرّوحِ الحائرِ لا يُقرّهُ هُدىً !فما أعظم الوجع عندما يكون الإنسان كل شيء ثم يصبح لاشيء! وما أقسى الألم عندما يمتلك الإنسان سلطة مطلقة وفجأة يصبح طريدا ذليلا مهانا يائسا مذهولا فيصاب بصدمة لا إفاقة منها بعد أن تهاوت كواكب سعده، وتقوض سرادق مجده! وهل دار في خلد أحد ذات يوم أن (حبيب العادلي) الرجل القوي في مصر سيقاد ذليلا بالأغلال إلى السجن كطلل بالٍ وكعرجون قديم، فقد صارَ أثراً بعدَ عين، وغدا بقايا من ذكريات سوداء تُطوى وجزما لن تُروى، ومن فكّر للحظة أن أترف أهل مصر وأغناهم (هشام طلعت مصطفى) سيقبع في زنزانة وحيدا فريدا، بجسد منهك، وروح من سلالة الأشباحِ، وقد ألقتْ عليه ذلة الحبس ورتابة الساعات بظلالٍ من الأسى والحزن والكآبة، وعزفت في فضائه سيمفونية مبكية من ألحان (الدراما الشقية) ومن تأمل في حال (زين العابدين) الرئيس صاحب القبضة الفولاذية واليد الحديدية في حضوره الأخير رآه مقصوص الجناح مقلوم الظفر، كاسف الوجه هائم اللب، كأنّما زاره صلٌ أسودٌ فلدغ فؤادهُ، فهو يتلوّى من الألم والوجعِ، ألم الظلم وجروح القهر التي خلفها وقد ذاق وبال تفريطه، وجنى ثمرة تهوره.
ما يجمع تلك الأحداث هو عنصر (المفاجأة) فيها وعدم التدرج أو وجود إرهاصات وأجراس إنذار تدعو للحيطة وأخذ الحذر وهذا ما يجعل لها وقعا كبيرا وأثرا بالغا وذهولا لا حد له، وكل تلك الأحداث تأتي إثباتا وتعزيزا لنظرية (البجعة السوداء) للمفكر الأمريكي نسيم طالب أستاذ «علم الغموض» في جامعة ماسوشيتس الأمريكية فاكتشاف الحاسب الشخصي والذي لم يهجس في ضمير يعتبر بجعة سوداء واختراع الجوال والإنترنت والذي لم يحك في صدر بجعة سوداء، وأحداث 11 سبتمبر التي لم تتمثل في خيال بجعة سوداء، والانهيارات المالية المفجعة في العالم والتي لم ترتسم في مخيلة بجعة سوداء وماحدث لرموز السلطة في مصر والذي لم يتحرك به خاطر بجعة سوداء! فماهي تلك النظرية المجنونة وما أصلها وما خصائصها وما علاقتها بقانون السببية؟
كونوا معي الأسبوع القادم
ومضة قلم:
يغدو الرجل حكيما عندما يفهم مقدار جهله!