غالباً ما نستخدم الحِكَم والأمثال والأقوال في أحاديثنا في جميع المناسبات والأماكن والأزمان، ونستشهد بها حينما نريد إيصال معنى معين إلى الآخر؛ ربما لبلاغة ذلك المثل وقدرته على تصوير ما نود نقوله بشكل أفضل فيما لو اعتمدنا على الذات في إيصال ذلك...
بمعنى أننا نبحث دوماً عن مثل معين يكون قادراً بل أقدر منا على إيصال المعلومة، ونحن بذلك نحاول إما توفير الوقت والجهد أو فعلاً إيصال ما نود أن نقوله بطريقة أدق.
والأمثال عبارة عن أقوال مختصرة قيلت في موقف محدد بوصفها رد فعل مثلاً أو وصفاً بليغاً عفوياً موجزاً لحدث معين. ويتميز ذلك القول بالاستخدام السليم للمفردة، والقدرة على توظيفها بما يتناسب والموقف، وبالبلاغة والعفوية، وربما السجع والطباق وكثير من ألوان بلاغة القول المعروفة. والأمثال غالباً خلاصة تجربة مرت وذهب أصحابها، وبقيت هي يرددها الكثير بعدهم في مواقف مشابهة ولحظات حياتية يومية بما يتطابق مع المواقف التي قيلت في حينها إن هي استمرت معانيها على النحو الذي قيلت من أجله، أو في مواقف مشابهة إنْ هي ابتعدت قليلاً عن الموقف الأساس الذي جعلت صاحبها يقولها فيه، أو في مواقف مختلفة كلياً عن الموقف الأساس إنْ هي فُهمت على نحو خاطئ.
والأمثال من أكثر الأشكال التعبيرية الشعبية انتشاراً وشيوعاً، ولا تخلو منها أية ثقافة؛ إذ نجدها تعكس مشاعر الشعوب على اختلاف طبقاتها وانتماءاتها، وتجسد أفكارها وتصوراتها وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها ومعظم مظاهر حياتها، في صورة حية وفي دلالة إنسانية شاملة؛ فهي بذلك عصارة حكمة الشعوب وذاكرتها. وتتسم الأمثال بسرعة انتشارها وتداولها من جيل إلى جيل، وانتقالها من لغة إلى أخرى عبر الأزمنة والأمكنة، إضافة إلى إيجاز نصها وجمال لفظها وكثافة معانيها.
ولقد حظيت الأمثال الشعبية بعناية خاصة عند الغرب والعرب على حد سواء، ولعل عناية الأدباء العرب بهذا الشكل التعبيري كان لها طابع مميز؛ نظراً إلى الأهمية التي يكتسيها المثل في الثقافة العربية؛ فنجد ابن الأثير يشير إلى أهميتها، وهو يحيط المتصدي لدراسة الأمثال علماً بأن «الحاجة إليها شديدة؛ وذلك أن العرب لم تصغ الأمثال إلا لأسباب أوجبتها، وحوادث اقتضتها؛ فصار المثل المضروب لأمر من الأمور عندهم كالعلامة التي يُعرف بها الشيء».
لستُ بصدد تقديم تعريفات للمثل والأقوال السائدة؛ فهي معروفة لغالبية الناس، وتعاريفها كثيرة ومتنوعة وموجودة في جميع معاجم اللغة العربية، وحتى غير العربية، لكنني وددت هنا التنويه إلى أن المثل حتى وإن كان شعبياً يجب أن يوضع في محله ويُستخدم الاستخدام الأمثل له؛ فلا يُضرب مثل معين في ظرف مختلف عنه، ويتكرر ذلك ويصبح المثل سائداً في غير محله ويُضرب لغير ما قيل لأجله؛ فيُنزع من أصله، وتضيع مناسبته، وفي ذلك ضياع لتراث يصور شواهد كثيرة وعادات وأفكاراً ومعتقدات وروايات وقصصاً نحن بأمسّ الحاجة إلى حفظها وصيانتها وتعزيز وجودها.
الأمثال العربية التي كانت تُضرب في السابق لا تزال تحتفظ بمعناها الأصل وبمناسبة ضربها، وهي بذلك تحتفظ لنفسها بتاريخها وبعدم ضياعها، وتصون وجودها، وحسبي أن مرد ذلك كونها صيغت بلغة عربية بليغة يصعب من ناحيةٍ ترديدُها من قِبل بعض العامة، ومن ناحيةٍ أخرى كون مفرداتها عربية فصحى فهي لا تحتمل التأويل أو الضرب في مناسبة تختلف عن تلك التي ضُربت فيها أو من أجلها. أما الأمثال العامية أو الشعبية، التي عادةً ما تُصاغ باللهجات العامية في مختلف أقطار البلدان العربية، فهي وإن كانت تحكي تاريخاً لا يخلو من العادات والأفكار، وتصف حياة لم نعشها، إلا أنها دائماً تكون عرضة للتغيير والتأويل والطرح أو الضرب في مناسبات تختلف عن تلك التي ضُربت فيها.
ثمة أمثال أخرى يتم فهمها على نحو خاطئ؛ ما يجعلها تُطرح بشكل مباشر في غير موضعها، وتُضرب على مواقف وحكايات غير تلك التي ضُربت فيها أو من أجلها، بل لعل في فَهْم الناس لها على نحو خاطئ سبباً في طرحها في أكثر من مناسبة، وربما كان مجمل تلك المناسبات لا يمت لأصل المثل ومعناه؛ كون الذي ضرب المثل لا يعلم أساساً مناسبته؛ فمعلوم أن الأمثال تتخذ الاختصار صفة لها كالمثل القائل «سبق السيف العذل» أو «اتقِ شر من أحسنتَ إليه» أو «من شب على شيء شاب عليه» أو «جزاء سنمار»، وجميع ما سبق بلا شك له مناسبة معينة؛ فإن غابت معرفة تلك المناسبة كمثل «جزاء سنمار» مثلاً أصبح طرق المثل في غير محله وارداً جداً، أو أن يُطرح المثل أو يُضرب بهدف معين يكون فيه عكس المراد كالمثل الذي عنونت به هذا المقال، الذي يقول بالعامية «يجعل يومي قبل يومك» أو «الله يجعل يومي قبل يومك»، والذي استوقفني في هذا الأخير هو أن القائل عادةً يقصد أن يسأل الله أن يطيل بعمر من يحب وألا يرى فيه مكروهاً، بينما أراه عكس ذلك؛ حيث يتوافر فيه مفهوم النرجسية البحتة؛ فتمني موت القائل قبل مَنْ يحب يجعل بلا شك المحبوب في معاناة الحزن والألم لفراق حبيبه وموته، بينما القائل يكون قد مات، ولن يشعر بألم فراق عمن قيل فيه ذلك المثل.
إلى لقاء قادم إن كتب الله.