تطوَّرت في جميع أنحاء العالم وسيلة النقل المباشر, بشكل مذهل ومبدع، فما بالنا بالنقل الموثق منها، المعد بجهد تتابعي راصد، حاصد، مدقق، موضوعي..؟
ومع أن النقل بالصوت والصورة الفوري يصل لوجدان المشاهد, والمصغي، إلا أنه أيضاً يتمكن من مدارك العقل والمنطق، للتفكير والتحليل؛ فيؤثر فيما تكونه من آراء، تجاه ما تتلقاه من شواهد وأدلة وبراهين..
الانتقال إلى الحدث في مكانه, وتحديداً عند الأحداث الحركية الفاعلة في التأثير, وتحريك مقود واجهة المواقف، وأمكنة الفاعلين، أو على الوجه الثاني إظهار شواهد المواقف، يجعل ما يشاهد المرء على فضاء الواقع أدلة اعتداء، أو أدلة براءة لديه..
هذه الانتقالة المتطورة للنقل المباشر, بوصفه وسيلة ناقلة للفرد من أي موقع هو فيه، إلى أي مكان حدث حي، تُمكّن الإنسان الواحد من تلقي الحدث، وتجعله يتخذ منه موقفه الخاص؛ لذلك تتشكل قناعات الناس في كل مكان، بما لا يجعل أي رأي آخر قادراً على التأثير فيما يكوّنونه أنفسهم، وإخضاعه لغير ما يشاهدونه من شواهد، وأدلة ناطقة بالصورة والصوت والشخوص وبالمواقع وبالموضوعات أو بالوسائل وبالآليات.. بما فيها الأرض والماء والسماء وما يعج فيها من آلات، وبشر، ووجوه مرسومة بمفارقات الدموع والدماء والفقر والمرض، وبألوان النار والبارود، والأتون، والدمار، أو حتى بألوان وأشكال الرفاه..
أي بكل مقاييس بكفتي الراجح منها بالحق، أو المائل منها بالظلم..
في ذلك ما مكن هذه الوسيلة من التصدر في أوليات وسائل التأثير، وبناء التوجهات، وصناعة الآراء، بل ساعدت بشكل مباشر وفعّال في ربط الواقع بخبرات الأفراد؛ إذ بها يعيشون الأحداث، ويتعرفون الشخوص المحركة لجهات الأرض، ويتفهمون الأغراض وراء بناء السياسات، ومحاور الأهداف فيها، وأدوار قادتها، ووسائل قوتهم، ونقاط هفواتهم وضعفها.. وما وراء القرارات الدولية، وما في جداول مثوباتها وعقوباتها، أي بمعنى آخر أنها مكَّنت الفرد العادي من إصدار حكمه على الأحداث في العالم، وتحليل أسبابها, والتوصل إلى رؤاه حول مستقبلها، بما زاد في الوعي العام، وأسس لاستقلال الرأي..
في مقابل هذا فإن التعامل مع هذه الحقيقة بوعي موضوعي مجرد يتيح بقوة احترام الفرد في كل مجتمع إنساني، ويجعله محور كل تخطيط، ومرد كل تطوير..
بل يؤكد مدى أهمية إشراكه في نسج الواجبات منه نحو نفسه، ومن ثَمَّ أمته، من أجل وضوح الحقوق له منهما..
هذا من جانب؛ لأنه في المقابل - من جانب آخر - يملك أدلته من الشواهد التي تجعله يملك حق النطق شاهداً, وصاحب رأي؛ وبالتالي صاحب موقف..
لقد صنعت وسيلة النقل المباشر لحركية الأحداث في آنيتها الإنسان الذي لا يغيب عن الحضور في لحظة الحدث، في حياة البشر والشعوب والأوطان؛ وبالتالي فإنه ذو الحق لأن يكون له جزء من الرأي في الحياة التي يعيشها.