في شهر سبتمبر من سنة 1969م، ظهر عسكري في الجيش الليبي مغمور وغير معروف، اسمه العقيد معمّر القذافي - وهناك من قال بأنه ملازم أعطى نفسه رتبة عقيد- ظهر منقلباً على الحكم الملكي آنذاك، وأزاح المرحوم الملك إدريس السنوسي، وتولى السلطة في ليبيا التي أصبحت جمهورية، ثم ما لبث أن غيَّر اسمها إلى أطول اسم لدولة في العالم:
(الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى)، مثلما حوّل علمها إلى اللون الأخضر، تمهيداً لنشر نظريته الثالثة في الكتاب الأخضر، الذي يعرض لجدليات عظيمة وعظمى من مثل: (أيهما أولاً؛ البيضة أم الدجاجة)..! حتى أصبح ينادي ويسعى إلى تطبيق هذه النظرية على شعوب العالم كلها، وليس الشعب الليبي وحده.
منذ السنوات الأولى لحكم العقيد؛ وعلى مدى اثنتين وأربعين سنة، وعقدة العقيد هي تصدير وتطبيق نظريته الثالثة، وهي الشعور المسيطر على ذهنيته؛ بأنه عبقري وعظيم وفيلسوف، وأنه رئيس الرؤساء، وعظيم العظماء، وملك الملوك، وإمام المسلمين، إلى أن جرب طريق الوحدة بالخطب النارية، وكيل الشتائم والسباب، وشراء الذمم، والتآمر على القيادات القريبة والبعيدة، واستخدام السلاح إن أمكن، فقد جرب بداية مع مصر السادات وفشل، وجرب مع تونس بعدوانه على قفصه وفشل، وجرب مع المغرب انطلاقاً من البوليساريو وفشل، وجرب مع موريتانيا والسودان وتشاد والنيجر وغيرها وفشل، ولعله جرب مع الشيطان وفشل، ثم أخذ يناصر ويدعم كافة الحركات الانشقاقية في القارات السبع، وجعل يُسخِّر أموال النفط الليبي لخدمة شعار مناصرة حركات التحرّر من الاستعباد والذل والقهر والاستعمار.. إلى آخر قائمة مفرداته العجيبة والغريبة، مثل خيمته الطائرة، ونوقه المرافقة، وبدلاته المزركشة، ونظارته السوداء، وعيونه الموجهة إلى السماء، وطريقته في الحركة والكلام، وغطرسته واستعلائه على بقية خلق الله، واستفزازاته في لقاءاته مع نظرائه في المناسبات والاجتماعات، وادعاءاته بأنه رئيس لا يرأس، وحاكم لا يحكم، وملك لا يملك، تاركاً حكم دولة ليبيا - كما يزعم- للمواطنين الليبيين من خلال اللجان الشعبية التي شكلها، واتضح فيما بعد أن مهمتها تنحصر في حشد جماهير الجماهيرية، لكي تسبح باسمه، وتهتف له وهو يخطب فيها، ثم يستولي على مئة وثلاثين مليار دولار من ثروتها، هذا وهو لا يحكم، فكيف لو كان يحكم..؟!
فشل العقيد في أن يتوحّد مع قطر واحد عربي أو أفريقي، من أجل أن يرأس هو دولة الوحدة، وقسم الخارطة العربية إلى فضاءات، ونجح في شراء زعماء أفارقة، ظل يغريهم بالمال الليبي، حتى اجتمعوا عنده، لتأسيس تنظيم صوري سماه: (الولايات الأفريقية المتحدة)، لكي يصبح هو رئيس هذا التنظيم العظيم، وملك ملوك أفريقيا قاطبة، ومكافأة لملوك أفريقيا الذين ارتضوه ملكاً عليهم، راح يضخ عليهم من أموال الشعب الليبي، ما يحفظ له هذا اللقب وهذا المنصب مدى الحياة، فقائد الثورة لا يتنحى ولا يستقيل، لأنه قائد ثورة..!
بعد مرور نصف قرن إلا ثماني سنوات، تذكّر الشعب الليبي متأخراً، أنه أركب على ظهره فخامة الأخ العقيد معمّر القذافي، وكان ثمن هذا الإركاب، دماء غزيرة، وتضحيات كثيرة، ثم تفاجأ بعد سأمه من الإركاب، وسنوات العذاب، أنه ليس بوسعه إنزال فخامة الأخ العقيد من فوق ظهره، إلا بدماء أغزر من ذي قبل، وتضحيات أعظم من ذي قبل، فكان هذا الذي جرى ويجري اليوم على أراضي القطر الليبي.
مفاجأة أخرى لم تكن في حسبان أحد، لا في داخل ليبيا ولا في خارجها، جاءت على لسان فخامة العقيد، وظهرت في شوارع وميادين المدن الليبية.
ففخامة الأخ العقيد، الذي هو رئيس ليبيا، وملك ملوك أفريقيا، وإمام المسلمين؛ رئيس لا يرأس، وملك لا يملك، وإمام لا يؤم؛ إلا قبائل جائعة في أواسط أفريقيا، يذهب إليها بين وقت وآخر، فيدفع لها لكي تقف تصلي خلفه، وتسمع خطبه الرنانة لساعات تحت أشعة الشمس الحارقة، ثم إنه غير مسئول عمّا جرى ويجري في بلده، من تخلّف وتأخر ومظاهرات أخيراً، لأن اللجان الشعبية هي التي تحكم طيلة اثنتين وأربعين سنة، ولأن الذين ثاروا عليه على طول وعرض التراب الليبي، هم في حقيقتهم فئران وجرذان وقطط مسعورة، وعلى اللجان الشعبية، ومعها نساء وبنات وأمهات ليبيا، أن تتحمّل مسئوليتها في تنظيف ليبيا من المخدرات، ومن حبوب الهلوسة، وأتباع ابن لادن.
المفاجأة الأكبر في هذا المشهد المضحك المبكي في آن واحد، أن ملك الملوك الذي لا يملك في ليبيا، يرأس ويملك ويحكم مليشيات من جيش أممي أسود عابر للقارات، ظل يعده ويدربه لساعة المحنة التي حلّت به بعد عمر طويل في سدة حكم الجماهيرية.
جيش من (غرابين سود)، من مجتمعات أفريقية فقيرة ومعدمة ومسحوقة، يسيل لعابها لجزء من الدولار في اليوم الواحد، فكيف والعقيد يدفع لغراب الشؤم القاتل من هؤلاء، ألفي دولار في اليوم الواحد، والمهمة في غاية البساطة: اصطياد القطط والفئران والجرذان الليبية، وسحقها وقتلها، لأن صاحب النظرية الثالثة، لا يتنحى عن سدة جماهيرية لا يحكمها، ولهذا يجب أن يبقى إلى الأبد، حتى لو حمل بندقية وقاتل، إلى آخر قطرة دم من دمه..!
أخيراً.. انتهت اللعبة، لأن القطط المسعورة، ومعها الفئران والجرذان الليبية، تغلبت على الغربان الدموية التي جلبها فخامته لتحميه، ثم مرّغت أنف فخامة العقيد في تراب الأرض الليبية، ونكست رايته، وأسقطت نظريتة الثالثة، ومزّقت كتابه الأغبر، وداست بأقدامها عنجهيته وكبرياءه وجبروته.
هذه هي نهاية الطغاة، من أمثال (ملك ملوك الغرابين).