هناك أنماط مختلفة من السياسات، أفضلها بلا شك السياسات الاستباقية، التي تقوم على رؤية صاحية للواقع في عمومياته وتفاصيله، تتابعه لحظة بلحظة وترى نفسها بدلالته كي تضبط حركتها على تحولاته، وتضبطه على مصالحها وأهدافها العامة، وتلاقي تطوراته بطرق مفتوحة على احتمالاته وممكناته،
فلا تقع مفاجآت تحرف السياسة عن مقاصدها، وتأخذها إلى ما لا يريده من يتحملون المسؤولية عنها، خاصة إن جاءت مغايرة لأهداف الشعب أو مجافية لإرادته. هذه السياسات الاستباقية تكون إصلاحية بامتياز، وليس لها وقت محدد، لأنها مطلوبة في كل حين.
وهناك، بالمقابل، سياسات تعرج وراء الأحداث وتتحرك بعد وقوعها، فتأتي عاجزة قاصرة لا تجدي ولا تفيد، تسبقها الوقائع إلى أن تبلغ لحظة لا يعود ممكنا معها القيام بأي فعل، فتقع عندئذ مشكلات لا حل لها، تزداد تفاقماً إلى أن تصير قاتلة لا يعود بوسع أحد ضبط مسارها والتحكم فيها، واستعادة الوضع الذي كان سائداً قبلها، والمشكلات التي لا حل لها تصير أزمات قاتلة معظم الأحيان، مهما طال زمن السكوت عليها وتجاهلها. هنا، توجد دوما فرص متاحة للإصلاح، ترتبط بفترة زمنية محددة من نشوء المشكلات هي الفترة التي تسبق تحولها إلى أزمات مستعصية، فإن فاتت هذه الفترة، عجزت الطرق المألوفة والعادية عن إخراج السياسة من مأزقها، وتطلب الأمر تدابير استثنائية فوق، أو وقع تمرد تحت.
وهناك، أخيراً، سياسات لا ترى الواقع ولا تقر بوجوده، لأنها ترى مقاصد القائمين عليها دون أي شيء آخر، فتحلها محله وتعتبرها الواقع الوحيد الممكن، وهنا تكون الطامة الكبرى، ولا يعود يفيد أي تدبير أو إجراء سياسي من أي نوع كان، ويكون النظام معرضاً للخطر بلا انقطاع، ويقع بالفعل من حين لآخر تمرد أو شيء شبيه بالتمرد، إلى أن يسقط الأمر القائم.
في الحالة الأولى يتحدث المرء عن حكمة السياسيين والسياسة، وفي الثانية عن إهمالهم الجسيم والخطير، وفي الثالثة عن أخطائهم التي لا تغتفر ولا يمكن التخلص منها في حاضنة أيديولوجيتهم ونظامهم. وفي حين تكون عقول السياسيين في الحالة الأولى مفتوحة على التطورات والتغيرات، وآذانهم مصغية لمطالب الشعب، تكون في الثانية محكومة بحجم الضغوط، وفي الثالثة بممانعة الحاكمين ورفضهم تغيير أي شيء، وبأفكارهم المسبقة وأيديولوجيتهم التي توهمهم أنه لم يقع ولا يمكن أن يقع أي خطأ، ما داموا متقيدين بحرفيتها، وإلا انزاح الواقع عن الخط الذي رسمته له، ونشأت عندئذ، وعندئذ فقط، أزمة قاتلة.
يقول علماء السياسة: إن السياسة الاستباقية تكون في الغالب من صنع العلماء وفنيي الشأن العام، الذين لا يلزمون الواقع بأفكار مسبقة، بل يرونه من خلال منظور يحمل طابعاً توجيهياً غير ملزم، يتلمس مساره التقريبي، ويفسح المجال لفهم حركته والتفاعل المسبق مع متطلباته، فالموقف هنا يشبه موقف مهندس سد يتابع مراقبته، فإن لا حظ فيه خللاً سارع إلى ترميمه، بينما يقوم على تجاهل الخلل والمخاطرة بإهمال السد إلى أن ينهار، ويؤدي الموقف الثالث إلى انهياره الحتمي، لكونه لا يقر أصلاً بإمكانية وقوع الخلل فيه، فإن انهار بالفعل بدأ البحث عن المذنبين الذين تسببوا في سقوطه لتحميلهم مسؤولية الخروج على التعليمات الصحيحة والتوجيهات الصائبة، ذلك أن أنصار الموقف الثاني يتبعون جزئياً في رسم سياساتهم رغبات حاكميهم، في حين تملي الأفكار المسبقة لقادة النمط الثالث بصورة كلية شكل ومضمون الواقع، فتراهم لا يصدقون إلا ما يتفق مع أفكارهم المسبقة ومقولاتهم الأيديولوجية، لذلك تكون كوارثهم جميعها نابعة من جهل ما تعيشه بلدانهم ويعانيه مواطنوهم!.
لا حاجة إلى القول: إن السياسات الأولى تراجع من حين لآخر أسسها ومسارها ومراميها، وأنها لا تدخل في مآزق صعبة وأزمات فتاكة، بينما تتمسك الثانية بأخطائها قدر ما تستطيع، وتنكر الثالثة وجودها وتعادي من يحاول لفت نظرها إلى إليها، وتلاحقه وتعاقبه. لهذه الأسباب، تكون أخطاء السياسات الأولى صغيرة وقليلة ومن لنوع الذي يقبل الإصلاح بسهولة، بينما تبقى السياسات الأيديولوجية فادحة وكثيرة الأخطاء، ومن طبيعة قاتلة، كما بينت تجارب دول المعسكر الشرقي السابقة، التي ظلت تلوي عنق الواقع وتنكر أخطاءها إلى أن انهار كل شيء، فندمت واعترفت بأخطائها، عندما صار الندم لا يسمن ولا يغني.
واليوم، يبدو أن العالم العربي بلغ لحظة صار فيها بحاجة شديدة إلى سياسات استباقية تعترف بما في واقعه الحالي من عيوب يجب أن تزال، وفي مطالب الناس من حقوق يجب أن تلبى، بينما ستفلس السياسات الأخرى جميعها، وخاصة سياسات النمط الثالث، أكثر مما هي مفلسة أصلاً، وسيفضي التمسك بها إلى مشكلات إضافية وغير قابلة للحل في البلدان التي يتبنى حكامها ما تمليه عليهم من نهج، والتي ستكون مرشحة حتما لصعوبات جديدة فوق ما لديها من صعوبات مزمنة، لن تنجو منها دون القيام منذ اليوم بخطوات استباقية جدية، تبادر إليها بملء إرادتها، لأن المنطق والسلامة يفرضان اعتمادها، ما دام للشعب حق في وطنه وثرواته، والحاكم راغباً في تلبية مطالبه، كي لا تدخل العلاقة بينهما في مأزق يزيده التنكر للواقع تعقيداً، فيقع عندئذ ما لا يحمد عقباه.
تستجيب الدول العربية بطرق متفاوتة لحاجات المرحلة ومستلزماتها، ويوجد بين الحكام من ينكر اليوم أيضاً، ورغم كل ما وقع في الأشهر الأخيرة، أن للناس مطالب محقة أو أن سياساته لا تلبي رغباتها إلى الحد الذي يجعل أيّ مطلب إضافي مؤامرة على نظامهم. في ظل سياسة كهذه، لا مفر من وقوع قلاقل في البلدان التي تعتمدها، إن لم تحدث اليوم فهي ستحدث غداً أو في زمن غير بعيد، حسب ما يعلمنا تاريخ العالم القديم والحديث. في هذا السياق، من المهم جداً أن يتحلى صاحب القرار بالقدرة على فهم ما يجري، وبقدر من التسامح يمكنه من رؤية ما ينقص سياسته، دون أن يعني ذلك بالضرورة نقصاً في نواه الطيبة وحبه لمواطنيه!.
لم يعد هناك اليوم خيارات كثيرة بالنسبة إلى السياسات العربية، فإما أن تزيل ما في واقع الناس من عيوب فتنجو، أو أن ترفض ذلك فتهلك. ومن لم يفهم ما وقع خلال الأشهر القليلة الماضية، لن يفهم أي شيء أبداً، وسيندم عندما لن يفيده ندم، وسيبكى عندما لن ينفعه بكاء!.