على مدى قراءتنا اليومية للإنترنت أو الكتب أو غيرها من المصادر فإننا نجد -من زمنٍ لآخر- خبراً بالغ الأهمية أو يثير التعجب، وقد مرّ علي من ذلك الكثير، لكن الذي يحصل أنني أقرأه وأتعجب منه ثم أنساه. لذلك، ولئلا تضيع هذه الاكتشافات والأخبار الشيقة بسهولة، رأيت أن أكتبها هنا، وبما أن الاكتشافات العلمية وعجائب الواقع والتاريخ كثيرة ومستمرة فرأيت أن الأنسب أن تكون سلسلة بدلاً من مقال احد، لأنها ستتكون من عدة قطفات لا ترتبط بنفس الموضوع دائماً، وهكذا نبدأ باسمه تعالى هذه السلسلة الجديدة بعنوان «تعلمتُ اليوم»، واليوم أول حلقة في السلسلة:
عندما نسمع مصطلح «العالم الثالث» فإنه يخيل للمرء أنها كلمة تصف دولة فقيرة ومتخلفة، لكن فعلياً هذه الكلمة لا تعني ذلك. بعد الحرب العالمية الثانية انقسم العالم لثلاثة أقسام: العالم الأول، تقوده أمريكا وحلفاؤها من الدول الديموقراطية، والعالم الثاني، يقوده الاتحاد السوفييتي والدول الشيوعية التي تخضع لنفوذه، والعالم الثالث، وهي الدول التي لم تنحز رسمياً لأي من العالمين أو الفريقين أثناء الحرب الباردة.
الحرب الباردة لم تكن حرباً بالمعنى المفهوم، وإنما هو المصطلح الذي يُطلَق على العلاقة المتوترة بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا بين عام 1945 وعام 1991م. بعد إسقاط السلاح النووي على اليابان في 1945 نظرت الكثير من الدول لأمريكا على أنها الدولة الأقوى عالمياً ولا تنافَس أو تجابَه، وزاد هذا الاتحاد السوفييتي تصميماً على الحصول على سلاحه النووي الخاص الذي بدأ العمل عليه منذ عام 1940، وشمل البرنامج شبكات تجسس على البرنامج النووي الأمريكي، إلى أن أتى عام 1949 الذي أجرى فيه الروس أول تجربة ناجحة لتفجير نووي، الأمر الذي أقلق أمريكا وأرعب حلفاءها في غرب أوروبا والقريبين من روسيا. هذه السنة هي بداية المنافسة المحمومة للتسلح بين أمريكا وروسيا التي لم تنته إلا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991م.
«ستانسلوف بتروف». هل مر عليك هذا الاسم من قبل؟ هذا رجل أنقذ العالم من حرب نووية. في عام 1983، وفي أول يوم من شهر سبتمبر في هذه السنة، كانت هناك طائرة مدنية تتبع خطوط كوريا الجنوبية، منطلقة من نيويورك وقاصدة سيئول في كوريا الجنوبية، لكن حصل خطأٌ ما وانعطفت الطائرة إلى المجال الجوي السوفييتي، حينها انطلقت الطائرات الروسية وأسقطتها، وقُتل جميع من كان في الطائرة (269 مدنياً)، منهم عضو في مجلس النواب الأمريكي. أسخط هذا أمريكا وظهر الرئيس ريغان وندد بما حصل، واصفاً ما فعله السوفيتيون بأنه وحشية و بربرية، وسخنت الأمور حتى وصلت لحد الغليان، وصار الرئيس السوفيتي أندروبوف شبه مقتنع أن أمريكا عازمة على ضربة استباقية، وأرسلت المخابرات السوفيتية إلى عملائها أن يستعدوا لحرب نووية محتملة. كان المقدِّم ستانسلوف بتروف مسؤولاً عن مراقبة جزء من حدود روسيا، وبعد 25 يوماً من إسقاط الطائرة والتصريحات العدوانية الغاضبة والتهديدية بين الدولتين أظهر نظام المراقبة السوفييتي إنذاراً يفيد أن هناك صاروخاً متجهاً إلى روسيا. لكن المقدم بتروف هدّأ نفسه واعتبر أن ما حصل هو خطأ حاسوبي. حينها أظهر نظام المراقبة أن هناك صاروخاً ثانياً قد أُطلِق على روسيا، ثم ثالثاً، ورابعاً، وخامساً. حينها ارتسمت على الشاشة كلمة «نفّذ»، وكان الإجراء الرسمي في الاتحاد السوفيتي آنذاك هو إطلاق الصواريخ النووية فور ظهور هذه الكلمة. نعم، في 26 سبتمبر عام 1983، كانت الولايات المتحدة قاب قوسين أو أدنى من حتفها ومن استقبال عشرات الصواريخ النووية السوفيتية. ما فعله بتروف هو تجاهل الأمر، وأقنع نفسه أن أمريكا لم تكن لتشن هجوماً نووياً بخمسة صواريخ فقط، وأعطى الأوامر لمن يعملون تحت إمرته بعدم إطلاق السلاح النووي على أمريكا مخالفاً الأوامر الرسمية، وأرسل للقيادة رسالة مفادها أن ما حصل هو خطأ لا أكثر. بعد أن هدأت الأمور أرسلت القيادة السوفيتية المختصين لتقصي ما حصل ووجدوا أن أمريكا لم تطلق أي شيء، وكان سبب الإنذار بعض الأحوال الجوية التي فسرها نظام المراقبة أنها هجوم صاروخي. أول ما فعلته القيادة هو أن أثنوا على صنيع بتروف، ثم أخضعوه لتحقيقات مطولة، وأخيراً زجروه لعدم اتباعه الأوامر. تقاعد بتروف بعدها بعدة أشهر وقد تدهورت صحته، ويعيش الآن في مدينة صغيرة في روسيا على معاش تقاعدي قدره 750 ريالاً شهرياً.