إن هيمنة الإنسان، وتدخله غير المنضبط، وغير العقلاني، وغير العلمي، أسهم في الإخلال بالتوازن الطبيعي للحياة، وإليك الدليل:
إن فقدان الروابط بين التربية والاقتصاد قد أثمر ثماراً مرة
تستحلبها البشرية في حياتها كل يوم..
وكل يوم يمضي يزيد من هذه المرارة..
فإن أردت دليلاً على ما نقول..
فسل مدناً وعالمنا انقسم بين شمال وجنوب.. يتأرجح بين حد الترف والافتخار وحد الحاجة إلى الانتحار..؟!..
وهذه المرارة وذاك الدمار قد يدفع بالبشرية لمراجعة أمورها والبحث في تأسيس علم جديد.. «لتربية الاقتصاد»..
أي للبحث في غايات الاقتصاد.. وحدوده.. وأساليبه.. لتقويمها..
إن إطلاق الرغائب البشرية بغير حدود.. والبحث في التنمية بغير شروط.. والإنتاج والاستهلاك الصاخب المترنح كماً وكيفاً بغير عوائق قد أفرز هذا العالم المضطرب..
وما يمكن لهذا العالم أن يستقر وأموره تجري في مجملها متناقضة مع النظام الكوني القائم على التوازن..
يقول الحق تبارك وتعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ}.
إن «المثل».. التي تجتاح العالم اليوم قد جعلت من «الرفاهية» هدفاً مرموقاً..!.
فهل تراه حقاً.. مثالاً.. لا نتجرأ على إمعان النظر فيه ونقده؟..
إن النظم الاقتصادية تندفع الآن وتحت ضغوط منافسة لا ترحم لإنتاج ملايين السلع التي لا تمثل احتياجات حقيقية للبشرية.
وبشكل موازٍ -وسابق أحياناً- قام نظام إعلاني هائل يتميز بالجاذبية والجور والتكلفة في نفس الوقت لإيجاد الرغائب وتسعيرها لسلع لم نكن في حاجة إليها البتة.
فإذا كان ذلك كذلك..
فهل نتصور ما يحتاجه إنتاج تلك السلع من خامات وفيرة يتم استنزافها بلا رحمة؟..
إن صورة العالم تنبسط أمامنا كالتالي:
- استنزاف للموارد الأولية فيه لإنتاج ما لا نحتاج.
- إنفاق باذخ واستهلاك لما تم إنتاجه وبكم وكيف لا يمثل حاجات حقيقية.
وهكذا يتم ارتكاب جريمة تلويث البيئة العالمية مع سبق الإصرار ثلاث مرات..
- الأولى: إذ نلوث.. ونحن نستخرج الخامات الأولية الوفيرة..!.
- الثانية: إذ نلوث.. عبر سلسلة العمليات المتطلبة للإنتاج.. والكارثة أفدح.. حينما نكون بصدد إنتاج ما لا نحتاج..!.
- والثالثة: إذ نلوث.. ونحن نستهلك كماً وكيفاً؛ ملايين السلع جذبتنا إليها الشراك الخداعية لنظام للإعلام يرتكز على دراسات نفسية عميقة تجعل الإنسان أسير مصيدة لا يظن له فكاكاً منها إلا بالشراء.. واستمرار الشراء والاستهلاك.
وسوف يحتاج هذا الإنسان بالضرورة للتخلص من نفايات استهلاك ملايين السلع تلك، ومن المؤكد أنه سوف يحتاج كذلك للملايين ينفقها على الأبحاث والتنظيمات والمنشآت ليتخلص من تلك النفايات.
نستطيع إذن أن نقول:
إن ثمة سوء سلوك بشرياً جماعياً..!.
وسوء السلوك هذا مدجج.. إذ هو «علمي».. «تقني» و.. «منظم»، فمن أين نبع سوء السلوك هذا؟.. إن شأنه شأن كل سوء للسلوك البشري إنما ينتج من انحراف تصوراتنا عن الحياة.. وأفكارنا عن «السعادة» و»المتعة» و»الحساب» و»الضمير» و»الثواب» و»العقاب»... إلخ.
وهذا الاضطراب الماثل يقابله جوعة حقيقية وعميقة لتعديل هذا السلوك البشري العام.
تعديله بكل نهمة.. وتعديله بكل سطحيته..
وهي جوعة تسبق في أهميتها المجاعة إلى المطعم والمشرب والمسكن والملبس.. وهاكم مثالاً لدليل غيبة الرشد..
أليس هو هذا الإنسان النهم يقتلع أشجار جبال الهملايا ليشريها بدراهم معدودة عاجلة.. ليعود فيدفع أضعاف ثمنها سيولاً وفيضانات تنحدر من تلك القمم هشمنا كوابحها من الغابات وعريناها من كسوتها فبدت لنا سوءاتها وطفقت تهلك الحرث والنسل؟.. فإذا سئلت اليوم أو غداً عن مجاعات وفيضانات وكوارث وتلوث، فقل: سببها التربية.