بعد أن هدأت العاصفة الجماهيرية التي اجتاحت تونس ومصر، وخفتت حدة العواطف، وعاد العقل إلى رشده وبدأ يتبين ما حوله بشكل أدق وأعمق، تأكد له أن ما قام به ليس ثورة مكتملة الشروط بقدر ما هي احتجاجات اجتماعية وسياسية، فلا هي ثورة ثورة، ولا الاحتجاجات ذاتها آتت أكلها، بدليل معاودة الخروج والاعتصام وتكرار المطالب، وبقاء الأنظمة القديمة تمارس سلطاتها وكأن شيئا لم يكن.
الثورة أكبر وأشمل من مجموعة مطالب يعددها النشطاء في صفحة واحدة، أو ينقلها مراسل إعلامي عبر وسائل الإعلام، أو يكتبها الناس عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، أو تحركات منظمة يقوم بها مجموعة معارضة.
الثورة حالة انقلاب (ثقافي) تفرز نمط حياتي مختلف وقوانين مختلفة وبشر مختلفين على مستوى السياسة وعلى مستوى المجتمع، الثورة تقفز بنشطائها لأماكن اتخاذ القرار السياسي والثقافي والاجتماعي، الثورة حالة وعي لدى جميع شرائح المجتمع بأهمية الانتقال إلى مرحلة زمنية جديدة هم قادتها، وهذا لم يحصل إلا للثورة الفرنسية والأمريكية والبلشفية.
إذا وصلت المجموعة الحركية المعارضة التي يعرفها الناس جيدا للحكم، فإن هذا يعد (انقلابا) وليس ثورة، الثورة تأتي بأناس تشكلوا في زمن الثورة فقط، وخرجوا من أحضانها، فعلى سبيل المثال: لو أن (وائل غنيم) تربع على عرش القرار السياسي في مصر لقلنا حينها أن مصر قد أتمت مشوار الثورة بنجاح، أما أن تبقى الأنظمة القديمة أو جزء منها تمارس ذات العمل وذات الأسلوب وذات القرار، ويذهب (الثوار) إلى منازلهم عائدين من ميدان التحرير، فهذا ما يجعلنا نتوقف عن وصف الحدث بثورة، فلا سبيل للمزايدات والمبالغات والعواطف.
الأمر ذاته في عدد من العواصم العربية، لا يوجد مشروع ثورة، غياب ثقافي واضح، فقط أناس تطالب بما يسد رمقها، وأحزاب سياسية تطالب بإسقاط الأنظمة.
أما إدخال الجماهير في دائرة الثورة، وأن ما يقومون به هو ثورة، أمر ليس في محله، لأن ذلك يجرهم إلى متاهات لا نهاية لها ويجعلهم يصدقون الوهم.
إذا كان من حق الجماهير أن تطالب بما يكفل كرامتها، فليس من حقنا أن نوهمهم بأنهم يقودون ثورة، احترام الجماهير ليس في تأكيد مطالبهم فحسب، بقدر ماهو في عدم تسطيح أفعالهم واستخدامهم لتصفية الحسابات.
إن تاريخ اللعب على وتر الجماهير يحفل به التاريخ، ليس التاريخ القديم فسحب، وإنما التاريخ الذي لا يفصلنا عنه بضع سنوات، فعلى سبيل المثال: جر الجهاد في أفغانستان الكثير من الجماهير، وجرهم نشطاء المقاطعة إلى العداء مع الغرب، وجرهم الإرهاربيون إلى سيارات الموت.
وها هم الآن، يجرون الجماهير إلى ما يصفونه (بالثورة)، فالمحرك لمثل هذه الأفعال في معظم الدول العربية ليسوا سوى (خصوم) للدولة يرتبون أمرا بليل ويلصقونه باسم الجماهير، فليس كل الدول العربية تشبه: تونس ومصر وليبيا.
وها هو الإعلام ببعض فئاته، تجر الجماهير إلى ما يوصف (بالثورة)، والحدث أقل مستوى من (الثورة)، نحن هنا نريد أن نسمي الأشياء بمسمياتها ونحترم عقول الجماهير ونرشد عواطفهم، فلتبقى الاحتجاجات احتجاجات ولتبقى الثورة ثورة، وليبقى الخصوم خصوم.
السؤال الآن: أين مشروع مقاطعة المنتجات الغربية؟ لا يعلم أحد، ربما أنه: فص ملح وذاب!!