من أكبر عيوب صحافتنا المحلية (وعيوبها كثيرة) الحذر المبالغ فيه وإمساك العصا من الوسط. إمساك العصا من الوسط لا يمكِّن صاحبه من استعماله كما ينبغي لا للتوكؤ ولا المنازلة، والمقصود هنا منازلة الآراء والأفكار. هذه الملاحظة ضرورية كمدخل إلى الحديث عن استعمال مفردة «مكرمة» للتعبير عن الفرحة بشيء تقدمه الدولة للمواطن يقع ضمن واجباتها الأساسية، أي التمكين للعيش بكرامة. الملاحظ أن استعمال هذه المفردة لا يأتي غالباً وربما دائماً إلا في السياق الإعلامي الصادر من وزارة الإعلام ووسائلها المرئية والمسموعة والمقروءة، ثم تنقلها الصحافة المحلية حرفياً وقد تزيد عليها. لا أذكر أنني قرأت أو سمعت أن أحد المسؤولين القياديين قال بلسانه عن شيء قدمه لخدمة الوطن والمواطن بأنه مكرمة. على الأغلب أنه يستعمل كلمة واجب وطني. لكن وسائل الإعلام الرسمية والخاصة هي التي تدخل على الخط وتبادر إلى القول بالصوت والصورة والبنط العريض بأن ما قدمه المسؤول من عمل يعتبره واجباً وطنياً إنما هو مكرمة. دعونا الآن ننظر في هذه المفردة بطريقة تشريحية لأنها طالما أسيء استخدامها في الإعلام الخارجي ضد بلادنا شعباً وحكومة:
أولاً: ما هو المعنى المتفق عليه لكلمة مكرمة لغة في القاموس وعرفاً في المفهوم الاجتماعي؟.
المعنى ليس مشتقاً كما يبدو لأول وهلة من فعل: أكرم فزاد في الواجب، وإنما من فعل تكرم: فأتى بمكرمة، وهي فعل الخير حين لا يكون واجباً وإنما أريحية و جوداً، لكن الإكرام هو الذي يعني الزيادة في أداء الواجب. إذن حينما توصف مجهودات الحكومة، أي حكومة بأن ما تقوم به لتحسين ظروف شعبها من بناء مستشفيات ومستوصفات ومدارس وجامعات وما تقدمه من إعانات بناء وتدعيم أسعار إلى آخر ما تقوم به الحكومات الصالحة من أعمال متوخية رخاء الناس وراحتهم واستقرار الأحوال الاجتماعية، أقول حينما توصف تلك المجهودات بالمكرمات فهل هذا يعكس مقاصد ومفاهيم الدولة لواجباتها وطموحاتها، أم أن كلمة مكرمة مجرد مفردة تراثية ما زالت تستعمل في هذا العصر بمفاهيمه الجديدة دون تفكير عميق بما تحمله من معنى قديم.
ثانياً: من الذي يستعمل هذه المفردة عادة ليصف ما تقوم به الحكومة كهدف تنموي بأنه مكرمة، هل هو الحكومة نفسها أم المؤسسات الإعلامية الرسمية والخاصة؟. بالرجوع إلى الحالات التي يرد فيها استعمال هذه المفردة يتضح أنه كان يأتي دائماً من الإعلام أولاً بوسائله المرئية والمسموعة ثم تتبعه الصحافة الرسمية وصحافة القطاع الخاص.
ثالثاً: متى تدرك وسائل الإعلام الرسمية والخاصة أن الزمن تغير، وأن المفردات التي كان الناس يعتبرونها مجرد ديباجات روتينية في السياق العام قد أصبحت تخضع للتحليل في الداخل والخارج؟.
السبب في ذلك هو أن الكهول والكبار في مجتمعنا القديم لم يكونوا أصلاً يتوقفون كثيراً عند احتمالات تعدد المعاني للجملة والكلمة والمصطلح. كانوا أناساً عفويين يعيشون في مجتمع عفوي بسيط أغلب متطلباته المعيشية والمعنوية مفصلة على عفوية المجتمع وبساطته. الآن تغيرت العقليات وأتى شباب يتواصلون فكرياً مع شباب الأمم الأخرى فتغير الكثير من المفاهيم والمعاني. على وسائل الإعلام الرسمية والخاصة أن تعي ذلك وتتوقف عن استعمال مفردات التطبيل ومحاولات إمساك العصا من الوسط لأنها لا تخدم أحداً بذلك غير نفسها.