ما يحدث في ليبيا من سفك للدماء واقتتال، دليل على الأمية السياسية التي تعاني منها، فالتجهيل السياسي كان بسبب تلك الضبابية التي كان يحكم من خلالها الزعيم، والذي أوهم الشعب أنه الذي يحكم نفسه بنفسه، بينما عندما خرج الناس للشارع لإحداث التغيير والمطالبة بتنفيذ إرادتهم ظهرت السلطة بوجهها القديم والمتخلف تضرب وتقتل وتعيد التاريخ مئات السنين إلى الخلف.. وتظهر الأمية السياسية في التاريخ الحديث في أبشع آثارها الدموية في مذابح رواندا، كما ظهر نقيضها السلمي والمتحضر في مصر. كدليل على ارتفاع الوعي السياسي..
كان وجه التناقض أن يبحث الزعيم في أيامه الأخيرة عن مرجعية الدين، فصار يتوسل إلى السلفية الدينية من أجل كبح جماح الثوار، وراح يتصل على علماء الدين من أجل نصح العامة لطاعة ولي أمرهم، وهو الذي لم يكن لنظامه الفريد أي علاقة بالدين الإسلامي في عقوده الأربعة، وفي اتجاه آخر صار يتوهم العدو الأصولي والمتطرف في حربه مع الثوار..
في ظل الأمية السياسية يتوهم الزعيم أنه الدولة ومجدها الدائم، وإذا ذهب تسقط الدولة وتحترق ثرواتها، وإذا خرج ينتشر العنف ويلجأ الناس للسلاح للفصل في قضاياهم المتنازع عليها، وفي ظلها أيضاً تنتشر ظاهرة الأعداء الوهميين من الخارج بينما يتفرج العالم فضائياً على خروج الشعب الليبي إلى الشوارع يطالبون بحق التعبير والتغيير..
يعيش العالم الحديث في عصر المفاهيم الإدارية والسياسية الحديثة؛ فقضايا مثل استقلال وفصل السلطات والديموقراطية والتعددية أصبحت أضلعاً وأسساً لأي كيان سياسي، والغائبون من الشعب والسلطات عن وعي الظاهرة السياسية يدفعون الثمن غالياً، حين تنعدم لغة الحوار، وتغيب الأرضية التي يرجعون إليها عند الاختلاف، وما حدث في تونس ومصر دليل على العمق التاريخي في الثقافة السياسية، وكان أحد أسباب سلمية الأحداث في البلدين العربيين..
في ظل الأمية السياسية يصبح سلب المال العام حقاً مشروعاً ويصبح الاستبداد والفساد المالي والإداري والرشوة أسباب قبضتها الأمنية والحامي لشرعيتها، وقد يصل الأمر في بعض الأحيان إلى نقطة اللارجعة عندما تتوهم السلطة أن الدولة ستسقط إذا بدأت عمليه الإصلاح الحقيقي، بينما ذلك غير صحيح، فالدول تمر في مراحل من التطور، والعقل السياسي الذكي الذي يدرك احتياجات كل مرحلة، وفي آخر أيام الأسبوع الماضي ظهر الملك المغربي في قمة ذلك التوهج السياسي عندما بادر إلى تغيير دستوري يضفي على الديموقراطية مزيداًَ من الصلاحيات التنفيذية.
ظهر الحراك السياسي الجماهيري في اليمن أقل عنفاً وأكثر هدوءاً من ليبيا، فاليمن لم تدخل في حرب أهلية، وظل الاختلاف في دائرة التظاهر الشعبي، ويكمن السبب أن الوعي السياسي في اليمن على مستوى السلطة والشعب يتجاوز الوعي السياسي في ليبيا، برغم من تركة العهد الإمامي المثقلة بارتفاع نسب الأمية والفقر، والسبب كان بدء العملية السياسية مبكراً، إذ يجري انتخاب للرئيس والبرلمان والمجالس البلدية في اليمن بصورة دورية، كما يوجد فيها أحزاب ومؤسسات مدنية، ومن خلال تلك التجارب تلقى المواطن اليمني جرعات عالية من الثقافة السياسية، جعلت من أغلبه أفراداً واعين لمستقبلهم ومستقبل أبنائهم ووطنهم، كما أرغمتا السلطة والناس على الدخول في قناة الالتزام بمصلحة اليمن العليا، والابتعاد عن لغة العنف والسلاح..
كذلك تجلى الوعي السياسي في تونس ومصر عندما تخلت السلطة والشعب عن استخدام الدين أو الطائفية في معمعة الخلاف السياسي؛ إذ اختفت الشعارات والنصوص الدينية في جدلية الصراع على السلطة، وكان الخطاب في أغلبه مبنياً على الحوار بلغة العصر وبصوت عال جداً، وربما قد نستطيع القول إن العصر السياسي الحديث لم يعد يستسيغ استخدام النصوص الدينية وثقافة التكفير في ساحات الصراع السياسي، فقد أثبتت الأيام أن من يتحدث بلغة واقعية مع الناس ينتصر في نهاية الأمر، ويخلد اسمه بماء الذهب على صفحات التاريخ.