يبدو أن الدول العظمى لم تستطع أن تتعامل مع التقلبات الحاصلة في المنطقة العربية بالشكل المطلوب.. فمنذ أحداث تونس وثورتها، ثم مرورًا بمصر وتقلباتها التي أفرزت تغيرًا للنظام، وإلى ليبيا بوضعيتها المأساوية الحالية، وأخيرًا وليس آخرًا اليمن وغيرها.. الدول العظمى وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من سياسة طوارئ..
.. وبناء رؤية تجاه ما يحدث في منطقة الشرق الأوسط..
يدور داخل أروقة الاستخبارات الغربية سؤال متكرر عن مدى تنبؤية هذه الأجهزة بحراك التغير، ورغبة تلك الشعوب في التحرر من أنظمتها.. ولكن لم يخرج تقرير أشار إلى مثل هذه التحولات.. وهذا يعكس فشل أجهزة استخبارات تلك الدول بما فيها الولايات المتحدة، وقدرتها على استشراف آفاق المنطقة العربية.. ولم تصل بالتأكيد مثل هذه التقارير إلى تصور مقارب لما يحدث حاليًا في مصر وتونس وليبيا..
أما المشكلة الأخرى فهي عدم معرفة الدول العظمي بكيفية التعاطي مع هذه الأزمات من تاريخ اندلاعها وحتى انفراجها بتغير النظامين التونسي والمصري وبدخول ليبيا في حرب أهلية واضحة، كما نقرأه من الأحداث خلال الأسابيع الثلاثة الماضية.. وقد ظهر تردد كبير لدى الولايات المتحدة وفرنسا - على سبيل المثال - في تحديد موقفها الصريح تجاه توالي تلك الأحداث.. وقد لاحظنا درجة عالية من التردد في بلورة موقف أمريكي أو أممي من تلك الأحداث..
ونلاحظ هذا التخبط الكبير في مواقف الدول العظمي وخاصة خلال مراحل حراك الأحداث الداخلية في تلك الدول، فتارة مع الأنظمة، وتارة مع المتظاهرين، وعودة للأنظمة ومرة أخرى للمتظاهرين. وهكذا دواليك.. كما تحمل المواقف تعارضات بين تصريحات المسؤولين في تلك الدول.. فمتحدث باسم الخارجية يقول شيئًا، والرئيس يقول شيئًا آخر، وهكذا بما يعكس حالة تخبط واضحة في المواقف.. مما يعني أن غرف الطوارئ في تلك الدول لم تعمل كما ينبغي.. أو هكذا نتوقع..
ولاشك أن الجدل الأساسي في هذه اللعبة السياسية هو إلى أين تتجه مصالح الدول العظمي في أي دولة من دول التغير، وهل إبقاء النظام أم استدعاء المعارضة هو الأنجح لتحقيق المصلحة..؟ ومن المفروغ منه أن المصالح الكبرى للدول العظمي هي الأساس في تقويم الوضع، وبناء المواقف السياسية، والدخول في تفضيل الاختيارات المتاحة.. ولعبة المصالح هي هاجس كبير لدى الدول العظمي بما فيها الولايات المتحدة، سواء مصالح قريبة أو مصالح بعيدة المدى.. كما أن الوضع الإقليمي العام هو هاجس آخر في محددات بناء السياسة الخارجية للدول العظمى وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.. فوجود إسرائيل في قلب المنطقة ينعكس كثيرًا في بناء سياسات الولايات المتحدة، وأي حدث كبير في المنطقة له تداعياته على كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
ومن خلال ثلاث حالات مثلت أحداثًا كبرى - تونس، مصر، ليبيا - يمكن أن نستنتج معالم دروس مهمة تستفيد منها المنطقة، وربما تأكدت منها مؤسسات السياسة الأمريكية بشكل أدق:
1 - سقوط نظرية الحماية الأمريكية أو أي نظام حماية تحت مظلة دولة عظمى، ويمكن الاستثناء من ذلك الصين.. فهي قوة عظمى ولها تقاليدها في الدفاع عن دول تمثل مصالح لها في الخارج.. أما الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا فتشتبك فيها القيم المجتمعية مع المصالح الاستراتيجية.. فهناك قوة تدفع بالقيم الأمريكية وخاصة الديموقراطية والحرية إلى مصاف أولويات السياسة الخارجية.. بينا القوة البراجماتية تضع المصالح الأمريكية في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية.. ولهذا فالتردد في اتخاذ قرار الحسم في المواقف يأتي بترجيح من كفة على كفة أخرى.. وهناك معيار آخر وهو الوضع الميداني في تلك الدول الذي يعقد من معالم صناعة موقف سياسي معين..
2 - من الملاحظ أن تصريحات بعض متحدثي مؤسسات الدول العظمى وخاصة في الولايات المتحدة هي التي تقود حركة المظاهرات في دول مثل تونس، ومصر وليبيا واليمن وربما غيرها.. فالمتظاهرون ينتظرون تأييدًا أمريكيًا أو أوروبيًا لمواصلة مشوار مثل هذه الانتفاضات.. وتصريح آخر قد يوقف مثل هذه المظاهرات كما حدث مؤخرًا في اليمن..
3 - تراجع الحراك التظاهري في بعض البلدان العربية بعد حالة ليبيا، فقد أثبتت هذه الحالة أن تونس ومصر هي استثناء من باقي الدول العربية، ولن يحدث تغير آخر في دول أخرى إلا بحمامات الدم التي ستسيل بين مواطني نفس الدولة، ولهذا هدأت مظاهرات أخرى في بعض الدول العربية..
4 - فكرة التدخل في السياسة الداخلية أصبح غير معمول بها وفق مبادئ السياسات الخارجية للدول العظمى، فتملكت الولايات المتحدة حق التدخل في الشؤون الداخلية لأي بلد في العالم، بما فيها الصين مثلاً أو غيرها من الدول بحجة الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها..
5 - يعيش العالم حاليًا تقلبات كثيرة وحالة من عدم الاستقرار السياسي ومرده طبعًا إلى تقلبات الأوضاع الداخلية في بعض الدول، ولكن أحد الأسباب هو تقلبات وسياسات الدول العظمى.. ونظرتها إلى مصالحها هي التي تملي عليها تهييج الشعوب أو تقييد حركتها حسب ما تراه يخدم سياساتها ومصالحها الاستراتيجية، بغض النظر عن مصالح دول وشعوب المنطقة العربية.
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية- أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود