يسميها أصدقاؤنا الشبابُ سنةَ «الأكشن»؛ فمنذ استهلال العام ونحن في أحداثٍ متسارعةٍ لا ندري أنتابعُ فيها القريب أم البعيد، السياسيَّ أم الاجتماعيَّ، الثقافيَّ أم الاقتصاديَّ، ليبيا أم معرضَ كتاب؛ فالجحافلُ تُجندِل ما أمامها: أكان مواطنًا مغلوبا أم فكرًا مسلوبًا.
أحداثٌ تتكرر وتتصدر؛ فكأننا في صالة عرض سينمائية تتبدل فيها الأفلام، وتغيب الأحلام؛ فالحقائقُ تحكي لتُبكي وتُذكي، والمشاهد وثائقيةٌ بلا مؤثراتٍ ولا إضافاتٍ، واعتدنا - في السينما - على النهايات، لكنها في أحداث العام، ولم يمضِ سوى أقلَّ من ربعه، لا تؤذنَ إلا ببدايات مؤرقة.
ليكن فيلمًا، حلمًا، مسلسلا، مرضًا، عرضًا،عدوى، عبثًا، لكنه حرك الشاعر وأطلق المشاعر والحناجر، وبقي أن نضيء القاعة لنتلمس رؤوسنا؛ أما نزالُ قادرين على الفهم والحكم والتنبؤ؟ وهل نستطيع إدارة الحدث بما يحقق متطلبات الفعل والتفاعل أم سنبقى في دائرة الانكفاء على خصوصية التجربة وانتفاء التناظر وتحجيم المناظرة؟
شُغلنا بقضايا تُهمُّ الأمة، ومناسبة يحتفي بها الوطن، ويجيءُ من تحكمه أهواؤه فيختزل الأمة في ذاته والوطنَ في اتجاهاته ليحكم ويتحكم، ويقرر ويبرر، وكأنه مدار الكون، أو كأنه الموكلُ به، ولو سلم منه لاتقى شرورَه وارتقى مدارجَه.
هؤلاء لا يسمعون سوى أصواتهم، ولو آمنوا بحق الخلاف والاختلاف لحموا أنفسهم قبل غيرهم من الرياح العاصفةِ التي تهب على التكوينات السياسية والثقافية فضمنوا لهم مكانًا في العالم المتخلق؛ حيثُ لا أحد يمكنه التنبؤُ بما ستؤول إليه خرائط الأوطان والأذهان لجيلٍ يرفض الوصاية والأوصياء.
ليبيا نموذج، والمعرضُ إشارة، والناسُ غير الناس، والتاريخ عبر، والسؤال الحتمي: لم لا نعي المتغيرات وَفق معطيات المكان والزمان والإنسان والتطور، إلا لأننا نعيد إنتاج ذواتنا باستنساخٍ غريبٍ لا يفقهه الراسخون في دلالات النمو وطبيعة البشر.
في معرض كتاب الرياض انتصرت الكلمة على استماتات الاعتقال والاغتيال، ورغم مقامع التجهيل وغُزاته فقد تسامى الفكرُ فوق أدلجات الحصار والتخويف، وفي الحوار المشروع مع بعض هؤلاء نتفاجأُ بارتهانهم لمذهبٍ فقهيٍ أوحد، وكأن لكلٍ كتابه» الأخضر»، ولا يجدي معهم أن تستشهد باجتهادات علماءَ ثقاتٍ من مدارسَ إسلاميةٍ؛ فما قيل لهم كرروه، ولا يعنيهم من يخاطبون: علمًا أو عمرًا أو مدركات، مثلما ظل» العقيد العنيد» يتجاهل كل النداءات على طريقة أبي محسد:» ودعْ كل صوتٍ غير صوتي... «.
في العام الذي استلم فيه» القذافي» الحكم (1969م) أُخرج من مدينتنا معلمُ لغة إنجليزية بريطانيُّ الجنسية لظن بعض المجتهدين أن له جهودًا تنصيريةً، وما كان مؤمنًا بدين، لكن علاقته بشباب المدينة ومثقفيها أوقعت في أذهانهم خوفًا دعاهم لطلب إبعاده الفوري في منتصف العام الدراسي، لكن تميز هذا الرجل المعرفي والعقلي لم يولد لديه رد فعلٍ ضدي؛ فظل يلتمسُ الضوء حتى وجده في الإسلام فحج بيت الله قبل سنوات، وسيعود - بعد أيام - للمدينة التي طردته، ولعله فألُ خير أن يرجع» جيمس» لمن أحبهم وأحبوه؛ ليغادر أهلَ» طرابلس»- بحول الله - من سامهم سوء العذاب فكرهوه.
حكايةٌ تستحق التأمل؛ فلعل ذوي النهى يربعون على أنفسهم قبل أن يصادروا رأي سواهم بأحكامٍ مبتسرة تتجه للنوايا وتختبئ في الزوايا.
العقل نعمة.