منذ يوم الجمعة وانا أتابع قناة (NHK)اليابانية، وأرقب ما حل باليابان من دمار وما جرى على اليابانيين من مأسي، وعشرتي السابقة لهم تجعلني أشاركهم الحزن، وأدعوالله أن يرأف بحالهم، وبين مشاعري تلك يطفو شعور بالغبطة والإعجاب إزاء قصص البطولة والتعاضد والتضحية التي بات يتردد ذكرها، وتلك حالة إنسانية لا يختص بها شعب دون آخر وخصوصاً في مواجهة الكوارث العظيمة، ولكن الأمر الذي أكاد أجزم بتخصص اليابانيين فيه، هو التنظيم والانتظام، فالتنظيم كان سابقا للكارثة بزمن، حيث تم وضع أنظمة التحسس والإنذار وتهيئة خطة وطنية سريعة التنفيذ عند وقوع الكارثة، وتهيئة وتدريب الناس على كيفية النجاة عند حدوث الزلزال العظيم المتوقع (داي جشن)، والانتظام عند اليابانيين أمر مشهود فكل منهم تصرف بما يضمن نجاته خلال الزلزال، وعندما توقفت الاهتزازات، كل تقلد الدور المناسب والمناط به، فتم أولاً تأمين سلامة الأطفال من أثار الهزات الارتدادية والموج العظيم (تسونامي)، هذا التنظيم والانتظام هو ما جعل اليابان لا تتأثر كثيراً بالزلزال نفسه مع أنه كان عظيما جداً فبلغ رسمياً درجة 9 على مقياس رختر الذي يتدرج من 1 إلى 10، ولكن مداهمة الموج العظيم كان مدمراً، حيث باغتهم بسرعة بلغت عند الارتطام بسواحل اليابان الشرقية الشمالية 800 كم بالساعة، وارتفع الموج في بعض المناطق 10 أمتار، هذا الدمار الهائل الذي أزال قرى عن بكرة أبيها، لم يصدم اليابانيين فقط بل صدم العالم أجمع، ومع ذلك ينتظم اليابانيون في صورة مجتمع متعاضد متعاون، ويتم إجلاء الناس من مناطق الخطر ويلبس رئيس الوزراء وكل المسئولين ملابس العمل، وتنتظم جمعيات النفع العام لتقديم خدمات الإنقاذ والمواساة، ويهب الشبان والموظفون للالتحاق بتنظيمات العمل الجماعي لرفع الأنقاض وإعادة بناء الطرق والجسور وتوصيل الكهرباء وتوفير مياه الشرب وإعداد الطعام لمئات الآلاف من الذين فقدوا منازلهم أو تم إجلاؤهم، الكل يعمل، والكل يساهم، والطاقة النفسية الهائلة التي ولدتها الكارثة وظفت في اتجاه واحد، هوإعادة البناء بأسرع وقت ممكن، وإنبرى عدد غير يسير من العلماء والمهندسين لدراسة ما حدث وما يمكن أن يحدث وما يستفاد في سبيل مواجهة كوارث المستقبل. هذا هو اليابان وهؤلاء هم اليابانيون، نعم، أغبطهم وأكثر ما أغبطهم عليه هو فكرهم الصالح، فكرهم الخلاق، فكرهم المتسامح، فكرهم البناء، فكرهم المنظم، فكرهم المحب للحياة.
إن ثروة أي مجتمع حديث ليست في ما يمتلكه من ماديات وموارد، فتلك تتدمر في ثوان عندما تحل الكوارث، والأخرى تنضب مع الزمن، وإنما الثروة الحقيقية في محصلة الفكر الجماعي للمجتمع، فذلك الفكر الذي يجعل الفرد من المجتمع يدرك أن كرامته وحسن معاشه مرتبط بحال الآخرين في المجتمع، فلا يمكن أن يسعد وحده أو يكون صحيحاً والآخرون مرضى أو أن يتمتع وحده بينما يشقى الآخرون.
الفكر السليم من العاهات هو ما يطور البلدان ويستفيد من معطيات المعرفة والتقنية في سبيل تنمية المجتمع فيواجه الكوارث بإعادة البناء، ويقتصد في الموارد فيحسن استثمارها، ولكن عندما يبتلى الفكر الجماعي بعاهات تفسده، يقود لبلاء عظيم فيشتت المجتمع ويدمر البنى ويتعس حياة الناس، ويتعدى ضرره لمجتمعات أخرى فيقود للحروب والدمار، ويفتك بصحة الإنسانية ويلوث البيئة ويزيل الجمال من الأرض.
عاهات الفكر هي فكر آخر مغلوط ومشوش، يبدأ بتقديس الأنا، فتتورم الذات، وتشرع الأثرة ويستولي الغرور على مكامن التقرير، ويصبح الإنسان آلة تنقاد بمحركات الغريزة، فيحتقر ويستبيح ويعتدي ويحتكر ويظلم ويكذب ويدمر ويقتل، وإن لم يفعل ذلك لقصور في قدرته سبب ذلك بمقاصده وتأليبه وعونه، هذا الفكر الموبوء يعظم أثره عندما يكون في ذهن ذوي السلطان من الحكام ورجال الدين ورجال الدولة والتجار وأرباب التأثير من المفكرين والفنانين وغيرهم، ففساد فكر هؤلا هو البلاء الأعظم للبشرية، وفساد الفكر لا يكون في معظم الحالات بادياً بصورة جلية، ولكنه يقود لنتائج ملموسة، فمن يخون وطنه ويتأمر عليه بمساعدة الأجانب ذوي المصالح المتضادة مع وطنه هو صاحب فكر فاسد، ومن يدق أسفين الفرقة بين أبناء البلد الواحد بمطرقة المذهبية والفئوية أوالمناطقية هو صاحب فكر فاسد، ومن يستعلي على الآخرين بشرف مزعوم لقبيلة أو عائلة هو صاحب فكر فاسد، ومن يستأثر بمورد أو منصب لحكر حق مشاع لفئة محددة هو صاحب فكر فاسد، ومع أن فساد فكر ذوي السلطان ذو أثر عظيم، فهو لا يسود إلا إذا كان فكر المجتمع موبوء بفساد فكري يتمثل بخلل معنوي لمفهوم الحق ومفهوم الباطل ومفهوم الإرادة والحرية؛ فذلك الخلل في المعاني هو ما يجعل المجتمع فاقدا لقيم سامية تتأسس حولها معايير التعايش السليم.
إنه لمن المؤسف أن معظم الفساد الفكري في العالم يعيث في مجتمعات يفترض بحكم دينها الإسلامي أن تكون أصلح المجتمعات على وجه الأرض، ومع ذلك فهي الأكثر تخلفاً بين شعوب الأرض وهي الأكثر اضطراباً، وهي الأكثر ظلماً، وهي الأكثر شقاء، وهي الأكثر إيلاماً للإنسانية بصورة عامة.. فأين الخلل؟!